أدب "تشيخوف" الساخر وتنوع أساليبه الأدبية

أدب "تشيخوف" الساخر وتنوع أساليبه الأدبية

 

شهد القرن التاسع عشر تطورا كبيرا في مختلف الأنواع ولأجناس الأدبية. وبرز في هذه الحقبة كتاب روس عظماء منهم "تشيخوف" وقبله تورغينييف وغانتشاروف ودوستويفسكي وتولوستوي. كل هذه الأسماء العملاقة ساهمت في التطور غير المسبوق للقصة والرواية الروسيتين. ولعل اسم "تشيخوف" كان واحدا من بين ألمع الأسماء  في الأدب الروسي  رغم أنه خلال رحلته الأدبية القصيرة جدا والغنية جدا اقتصر على كتابة القصص القصيرة والطويلة.

ولد أنطون  "تشيخوف" عام 1860 في مدينة "تاغاناروغ" في عائلة بسيطة، إذ كان والده تاجرا صغيرا، وفي سن السادسة عشر اضطر للبقاء وحيدا في مدينته وكان عليه أن يعتمد على نفسه، إذ أفلس والده ورحل مع عائلته إلى موسكو ، فكان على "تشيخوف" أن يحمي نفسه منذ الصغر من العنف والكذب والرياء بالوسائل المتاحة له حينذاك، وهي المرح الذي لا ينضب في داخله وروح الفكاهة الذي لا يجاريه فيه أحد، والسخرية من منغصات الحياة.

 برزت مواهبه الأدبية في المدرسة الخاصة، حيث كان يتلقى تعليمه، وقد كتب في تلك السنوات مسرحياته القصيرة الأولى وأصدر مجلة خاصة يكتب فيها فقط  أفراد عائلته ، سماها بـ"الأرنبة". وبعد أن بدأ الدراسة في كلية الطب بموسكو أصبح المعيل الوحيد لأسرته والمربي  الغيور لأخوته الصغار. وفي أثناء دراسته للطب، نشر أعماله في مجلات أدبية ساخرة شهيرة كـ"ستريكوزا"(اليعسوب)، و"أسكولكي"(شظايا)، و"بوديلنيك"(المنبه) وغيرها..نُشرت أول قصة ل"تشيخوف" عام 1880 بعنوان:"رسالة إلى الجار المثقف" ومنها يبدأ رحلته في عالم الكتابة. وقد لجأ "تشيخوف" في بداية رحلته الأدبية إلى استخدام أسماء مستعارة يذيل بها قصصه كـ"أنتوشا تشيخونتي"، و"رجل من دون طحال" وغيرها من الألقاب التي تنوف عن الخمسين. وفي نيسان عام 1890 سافر "تشيخوف" إلى جزيرة ساخالين ليتعرف إلى تلك المنطقة البعيدة جدا عن مركز روسيا وغير المعروفة للروس، وكان هدفه من تلك الرحلة الشاقة الطويلة هو التعرف على ساكني تلك المناطق و إلى حياتهم المعيشية ورغباتهم. وفي طريق عودته منها، زار "تشيخوف" الهند وسيريلانكا وسنغافورة وبور سعيد والقسطنطينية. وكانت الأنطباعات التي تركتها رحلته تلك، غنية ومتناقضة ومثيرة للجدل.

 

 

أصبح "تشيخوف" في تسعينيات القرن التاسع عشر كاتبا معروفا جدا في أوروبا ونشرت الصحف روائعه الأدبية كـ"العنبر رقم 6"، و"المستهترة"، و"حكاية رجل مجهول"، و"عن الحب"، و"يونيتش"، وغيرها من القصص. كان القاسم المشترك لمواضيع هذه القصص في تلك الفترة هو حياة الناس العاديين المعاصرين للكاتب وعثراتهم وتصوراتهم الخاطئة عن مصير الإنسان. ويعتبر "تشيخوف" أيضا واحدا من أفضل وأشهر  

كتاب النصوص المسرحية في روسيا.فمازالت مسرحياته"العم فانيا"(1886) و"النورس"(1885) و" بستان الكرز"(1904) وغيرها تعرض حتى يومنا هذا على خشبات أفضل مسارح العالم.

في عام 1904 ساءت حالة "تشيخوف" الصحية جدا، وبناء على توجيهات الأطباء سافر للمعالجة إلى منتجع مدينة "بادن فيلغير" الألمانية وتوفي هناك.

 

                                  الفكاهة في أعمال "تشيخوف" الأدبية

     -  المرحلة الأولى(1880-1888)

 براعة "تشيخوف" ككاتب ساخر(أمثلة من قصصه)

-طرح المواضيع الأجتماعية 

دخل "تشيخوف" ككاتب مرح وخفيف الظل إلى عالم الأدب بقصصه القصيرة الهزلية والساخرة، ولكن يصعب القول بأنه تمكن من ذلك بسهولة. فقد كان كاتبا مجهولا بالنسبة لأصحاب الجرائد والمجلات في ذلك الوقت. وطُلب منه بالدرجة الأولى كتابة فصول مسرحية موجزة وقصص قصيرة جدا قادرة على إدخال المرح إلى قلوب القراء . ولو استخدمنا المصطلح الدارج الآن لقلنا بأنها كانت أشبه بلقطات الكاميرا الخفية.    

  سعى مؤلف"موت موظف" و"العنبر رقم 6" باستمرار إلى الإيجاز والسرد المكثف. كان الإيجاز والموهبة أمران متلازمان ل"تشيخوف" الكاتب. من الطبيعي أن لا يكون الإيجاز ذاته صفة أكيدة ملازمة للموهبة، لأن الإيجاز يتطلب القدرة على قول الكثير بكلمات قليلة وإشباع الأحاديث القصيرة بمضمون داخلي غني. وهذا هو بالضبط ما كان يميز "تشيخوف" عن غيره من الكتاب. كان "تشيخوف" يتوصل إلى الإيجاز عن طريق الابتعاد عن إدخال عدد كبير من الشخصيات إلى قصصه والاكتفاء بشخصيتين أو ثلاثة. وحين يتطلب موضوع القصة زيادة عدد الشخصيات، كان "تشيخوف" يلجأ عادة إلى اختيار الشخصية المركزية ويصورها بأسهاب ويضع البقية كنماذج خلفية عديمة الأهمية، وقد كانت هذه الطريقة تسمح له بلفت الانتباه إلى محور القصة وجوهرها الأساسي.

حادثة المسرح في"موت موظف"، ولقاء الأصدقاء بمحطة القطار"البدين والنحيف"، والحديث في القطار في"الطبيعة الغامضة"، وأحاديث في أثناء تناول طعام الغداء في"فرحة الفائز"-كانت نموذجا للمواقف التي أوقع "تشيخوف" الساخر أبطاله فيها. كان يصور فيها الحياة الروتينية، وأمور بسيطة جدا ومواقف حياتية نراها أو نقع فيها كل يوم ولكننا لا نلحظها أحيانا كثيرة. وفيها بالذات يُبرز الكاتب مختلف المواضيع وشتى الأبطال. نموذج شخصيات "تشيخوف" هو الإنسان العادي البسيط. والضحك من هذه الشخصيات ليس بسبب طبائعها الشاذة أو سلوكها الغريب، بل بسبب تصرفاتها العادية، مثل الرشوة والطمع وطموحات"الإنسان الصغير" والتملق المبالغ فيه ،كل ذلك يستدعي الضحك والاشمئزاز معا ويدفع القارئ إلى تجنب ذلك. إن كتابات "تشيخوف" تلقي الضوء حقا على الحياة المبتذلة للإنسان المبتذل وقليلون هم القراء الذين يجدون أنفسهم في قصص "تشيخوف" وخاصة عندما يمس الابتذال الظواهر السامية في الروح البشرية. وهنا بالذات يكون الضحك جارحا جدا ولاذعا. استياء الكاتب العارم من الابتذال مخفي بأمان عن جماهير القراء تحت غطاء أسلوبه الساخر في سرد القصص وبذلك يصيب أهدافه بدقة متناهية. وكلما قلّت أنسانية بطل القصة كلما كان الكاتب الساخر أكثر قسوة. عندما يشير "تشيخوف" إلى وحشية  أبطال قصصه، فأنه يضعهم في قوالب أشبه بـ (المانيكان) وبذلك يبرز في القصة الساخرة الشبح المرعب للقدح والسخرية. هؤلاء الأبطال يعيشون مكبلين أسرى تصوراتهم المتحجرة وهي كالكابوس الذي يضيق على أحاسيسهم الحية ويجمد عقولهم. عادة أداء عمل رسمي من قبل هؤلاء الناس والمبالغة اللامحدودة في تنفيذه قد تؤدي إلى عواقب وخيمة وهي التي دفعت "تشيخوف" لكتابة قصة"المساعد "بريشيبييف"". الشرطي والمخبر المتقاعد، رغم تقاعده وانتهاء خدماته، يستمر منفردا، طوعا وبإرادته على فرض النظام معارضا المنطق السليم. ولذلك يبدو أضحوكة للناس وشخصية كاريكاتورية جوالة، لكن تجد في حماسه الجنوني  تهديد حقيقي للمجتمع. "بريشيبييف" بتصرفاته المثيرة للسخرية والتي لا تهتم بها السلطات ولا تدفع له أجرا لقاء عمله كمخبر طوعي، يعيش وهو يفكر دائما بفرض النظام على الناس. إنه كالآلة التي تنشر الرعب. فالفلاحون الذين كتب عنهم في تقريره، برأيه خالفوا النظام بجلوسهم ليلا حول نيران أشعلوها. وكيفما تصرف الناس لا بد وأنه سيجد سببا ما لألقاء القبض عليهم. أنه لا يعكر صفو حياته وإنما يسيء إلى الآخرين ولذلك فهو مخيف. الا أن الشخص الذي يدافع عن القانون بحماس،- فهو الذي يستشهد به حين يقول: هل هذا يعني، أن نُعامل جميعنا بالمثل وبكل مواد القانون في كافة الظروف؟- يُعاقب بمواد القانون ذاتها!. في هذا العبث بالذات تكمن أصالة السخرية الـ"تشيخوفـ"ـية. لا توجد لدى "تشيخوف"، بعكس ميخائيل شيدرين(**) فكاهة (محضة أو صافية). إنها تتلألأ ببريق ساخر ففي نهاية المطاف يكون بطله "بريشيبييف" ليس عنصر تهديد للمجتمع بقدر ما هو مضحك!. وحين يقوم المساعد الموقوف، خلافا للمنطق السليم بالصراخ ثانية:"تفرقوا يا ناس!" يتوضح بجلاء بأن هذا الشخص غريب الطباع. ففي شخصيته كما في المرآة المشوِهة ينعكس جوهر ذاك النظام البوليسي البيروقراطي حيث يعشش التسيب و"مضيعة" الوقت الثمين وإهمال الأمور المهمة. "تشيخوف" وحده كان قادرا على إنشاء مثل تلك الصور الكاملة والمتعددة الجوانب لذلك الضرر الاجتماعي. إن ما حدث لـ"بريشيبييف" نموذج غير شائع. أما النموذج الغالب في قصص "تشيخوف"، فهو أن الخوف من السلطات وأصحاب النفوذ يدفع الناس العاديين إلى التكيف  مع الوضع القائم، ومنها بالذات ولدت لدى "تشيخوف" فكرة قصته الرائعة."الحرباء" 

يلعب الحوار دورا مهما في قصص "تشيخوف" وهو المحرك الأساسي لها. حيث يصور "تشيخوف" أبطاله بعدة كلمات مقتضبة مشيرا إلى صفاتها الأساسية فتغيب عن القارىء أمور أعتاد أن يقرأها في كتابات أدباء آخرين كشكل وجه البطل وعينيه ولون الشعر والخ... حتى تصوير الطبيعة لا يلقى اهتماما كبيرا عند "تشيخوف" رغم أن هذا التصوير واقعي ودقيق ومعبرجدا، لأنه كان يرغب في أن يقرأ القارىء ويغمض عينيه فورا ويتصور ذلك المنظر الذي رسمه. وخير مثال على ذلك  الصورة التي رسمها "تشيخوف" لمغيب الشمس في قصته"أغافيا":"  ...و خلف الرابية حل الغروب و بقيت مسحة نور أرجوانية باهتة, بدأت تغطيها هي أيضا  غيوم صغيرة كفحم مكسو بالرماد".

 

كان "تشيخوف" يلجأ مرارا  إلى فكرة  توظيف قصة داخل قصة ومن هذه القصص:" عنب الثعلب" و"الرجل المُغلّف". هذه الطريقة مكّنت الكاتب من طرح أفكاره بموضوعية وإيجاز في نفس الوقت.

أستخدم "تشيخوف" لغة بسيطة وسهلة مفهومة بالنسبة لنا ولكل شرائح القراء. بساطة اللغة كانت نتيجة جهد  الكاتب الشاق والمضني أذ يقول:" فن الكتابة يكمن أصلا في فن شطب ومحي السيء مما كتب". حارب الكاتب بدون هوادة ضد كافة أشكال الكليشات المقولبة والجمل الجاهزة المألوفة. من جهة أخرى، سعى "تشيخوف" إلى خلق أشكال كتابية جديدة وبسيطة. كانت تشبيهاته واستعاراته دائما حديثة وغير متوقعة.  كان "تشيخوف" قادرا على لفت الانتباه إلى جانب ما جديد في مواضيعه معروف للجميع لكنه مأخوذ من قبله كأداة فنية لم يلحظها سواه بنظرته الثاقبة!. إليكم استعارة مأخوذة من مدونات "تشيخوف":" التربة رائعة جدا إلى حد لو زرعت فيها رجل ناحل سينبت ماردا". هذا هو قاموس "تشيخوف" الثري الذي يعرف كافة المصطلحات الحرفية ويسهل على القارئ، حسب لغة "تشيخوف"، معرفة مهنة ورتبة البطل الاجتماعية دون أن يشير الكاتب إلى ذلك سواء كان جنديا أو وكيل أعمال أو بحارا أو راهبا أوطبيبا.

ما يميز "تشيخوف" أيضا هو قدرته على الإضحاك والتحدث إلى القارئ بلغة الشخصيات ونفسياتها ولهذا صمدت أعماله أمام الزمن  ويقرؤها الجميع بكل سرور حتى وقتنا الحاضر.   

لقد بدأ "تشيخوف" بالأعمال الساخرة لكنه كتب أيضا قصص ذات طابع درامي. أغلبها تركز على حالة الأدب في ذلك الوقت كــ" ما نقرأه كثيرا في الروايات والقصص..." و" عمّات من مدينة تامبوف" .

وبين قصص "تشيخوف" نجد أيضا قصص جنائية كوميدية كــ"علبة الكبريت السويدية" وقصص عن الأطفال كـ"غريشا" و"الطباخة تتزوج" و"الصبي" وغيرها..

على العموم، يمكننا القول بأن الكثير من أعمال "تشيخوف" كانت تربوية وهادفة بكل ما للكلمة من معنى. لقد كان يشير بجدية إلى التصرفات غير اللائقة وقلة اللباقة والعصبية والوقاحة في تعامل الناس فيما بينهم. ومازال تأثير "تشيخوف" من الناحية التربوية على القراء كبير حتى يومنا هذا.

أن سخرية "تشيخوف" موجهة ضد عيوب المجتمع بغض النظر عن مرتبة الأشخاص الاجتماعية ومناصبهم وثقافتهم، لأنه كان ينطلق من تصوراته عن القيم الإنسانية الأخلاقية المطلقة ولم يسامح أبدا من "يشذ" عنها مهما كان. في عالم "تشيخوف" الكل متساوون ولا يوجد أستثناءات ويطلب من الجميع الشيء ذاته. كان يمقت النفسية الوضيعة للأنسان الصغير والموظف المضطهد!. وقصصه"التافه" و"الوسام" و"ألغوه" خير مثال على ذلك . كان "تشيخوف" يبرز تفاهة الإنسان عن طريق إلقاء الضوء على اهتمامات شخصيات القصص بالأمور  التافهة جدا. بإمكاننا قراءة ذلك في قصته"الوسام":-"صرت، نوعا ما، أحترام نفسي أكثر من ذي قبل"-فكّر بوستياكوف وهو يعلق وساما لا يخصه على صدره لكي يذهب إلى حفلة السيد سبيتشكين" (الوسام:1884).  وحين يشعر بوستياكوف بخطر فعلته، يفقد تماما رغبته في الحياة. يلتقي بوستياكوف في الحفلة بزميله في العمل مما يولد لديه آلاما معنوية وأخلاقية(الخجل والعار) وبدنية(كيف يخفي بيده اليمنى الوسام لكي لا يلحظه أحد)، ولكن حين يشعر بأن الزميل أيضا يخشاه لنفس السبب، يتوقف بوستياكوف عن المعاناة. وهنا، يصبح صوت "تشيخوف" أكثر حدة أذ يقول:"كم هم تافهون هؤلاء الناس  الطيبين الذين لا يريدون الشر لأحد!."

الحوادث السخيفة والمفارقات السيكولوجية تحمل طابعا إنسانيا عاما: من منا لم يقع فيها؟! لنتذكر على الاقل كيف أصطاد خمسة فلاحين سمكة ومن ثم أعادوها إلى الماء(قصة:ناليم،1885) . كل شيء في القصة مضحك، حتى تابوت النجار اندريه يوظف بسخرية. فالكاتب يدعو القارئ إلى الضحك على المفارقات. إنهم ضحكوا ولكنهم لم يلتفتوا إلى دهاء الكاتب! ضحكوا من "تشيرفياكوف" الغبي المرتجف هلعا أمام الجنرال العجوز الذي عطس على صلعته (موت موظف) ومن الشرطي أو"تشوميلوف" (الحرباء) ومن المجانين في قصة(حادثة مانيا غرانديوزا):".. واحد من أولئك المجانين كان يخشى تناول الطعام مع أسرته والتصويت في الأنتخابات لأنه كان يعلم بأن(التجمعات محظورة). ضحك القراء من أعضاء اللجنة الصحية الذين صادروا التفاحات الفاسدة بحجة تفشي وباء الكوليرا ومن ثم  أكلوها بعد شرب الفودكا(قصة:الإجراءات اللازمة)، ومن بطلة قصة(عن السيدة) التي تتوقف عن الحديث حول شكسبير لكي تؤدب أبن أخيها وتتحدث بعدئذ عن ازدهار الفن والإنسانية. ضحك القراء دون أن يلاحظوا في حقيقة الأمر بأنهم يضحكون من أنفسهم. إن ميزة سخرية "تشيخوف" الخاصة التي تميز بها منذ قصصه الأولى هي ما يسمى بتلك المفارقات الداخلية أو الموضوعية التي لم يقلها الكاتب مباشرة  أي بمعنى أدق: مفارقات الحياة ذاتها. ألم تضحك الحياة من الشرطي "بريشيبييف" والأبطال الآخرين؟ إن سخرية "تشيخوف" تكون تارة مرحة وتارة تلفها مسحة شاعرية حزينة أو سخرية خفيفة ومضيئة أو قريبة من القدح. إن هذه السخرية، تعتبر بحق نبع لا ينضب.

المرحلة الثانية من عام 1889 ولغاية 1904

في هذه المرحلة لا تختفي السخرية بل تتحول من قيمة فنية مستقلة إلى صورة متعددة الأوجه والجوانب. ويتعرض للتغير الأسلوب ذاته، حيث تصبح القصص أطول بعض الشيء وأكثر ثراءا بمضمونها. ففي هذه المرحلة تختفي القوالب المحدِدة للقصص ويسهب الكاتب إلى حد ما في نقل تفاصيل حياة الأبطال (قصة طويلة)، حيث لا يكتفي بنقل حدث من حياتهم بل تهمه أكثر تفاصيل تلك الحياة. وهناك قصص قصيرة ولكن ذات مضمون واسع يتحدث عن أشياء كثيرة (قصة:مدرّس الأدب) و(المرأة والكلب) و(المحبوبة) و(يونيتش) و(العروس) و(الطالب) وغيرها.إنها تستعرض طبائع مختلفة وتسلط الضوء على نمط حياتهم بالكامل رابطة الحاضر بالماضي. نحن لا نرى هنا طريقة معيشتهم بل تاريخهم  واتجاه رحلتهم الحياتية.

تهيمن مسألة "معنى الحياة" وقضية فقدانها للكثير من أيجابياتها على مواضيع قصصه المتأخرة. وهنا يبدأ بعرض  مختلف أشكال الحياة المعيشية (المرفوضة من الواقع) ومختلف مظاهر الحياة اليومية العادية. كان "تشيخوف" الشاب يسخر بدون تحفظ  من الإنسان الخجول لكنه يستخدم الآن لهجة خطاب أُخرى ومنهج آخر أملاه عليه سعيه إلى شرح النواقص وإيجاد العلاقة بين الأسباب والنتائج وتحديد حجم المصيبة ودرجة الشعور بالذنب. قصص "تشيخوف" أصبحت فيما بعد ساخرة وشاعرية في نفس الوقت تخفي بداخلها الأبتسامة والحزن والمرارة.

 في المرحلة الثانية من مسيرة "تشيخوف" الأدبية هناك صفحة ناصعة مليئة بالقصص الهزلية وهي على شكل نكات و مسرحيات هزلية قصيرة كـ"الدب"(1887)، و"اقتراح"(1888)، و"العرس"(1890)، و"الذكرى"(1891). مسرحيات "تشيخوف" الهزلية القصيرة لا مثيل لها في الأدب الروسي. إننا لا نرى فيها رقصات ومقاطع شعرية. إنها مليئة بأمور أخرى كحوار لا يتعدى فصل واحد يتطور ويتفاعل بقوة. هنا نجد الحياة تمر بمراحل مصيرية: كالأحتفال بالأعياد تتخلله فضائح قذرة. في قصته: (الذكرى) يبلغ مستوى الفضائح ليصل إلى حد التهريج. تجري الحوادث كلها في نفس الوقت: كاره النساء "خيرين" يعد تقريرا بمناسبة احتفالات البنك، و"ميرتشوتكينا" تلح على "شيبوتشين" مدير البنك ليعطيها مبلغا من المال، وزوجة "شيبوتشين" تروي بشكل ممل ومفصل معاناتها حين عاشت مع والدتها، وتشاكس "ميرتشوتكينا" كلاميا الضيوف من الرجال. الكل يتحدث على هواه ولا أحد يريد سماع الآخر. ويتضح للقارئ بأن "تشيخوف" مهّد الجو لكتابة مسرحية هزلية، فها هو يذكر في قصص:(بلبلة تامة) و(كل هذا هراء)، و(لكل سحنته) طبائع تتميز عن غيرها وتتحدث بلغتها وعبارتها مثل " غياب الملل"، و"حركة من دون توقف"وغيرها.

البلبلة والهراء يبلغا قمتهما في "الذكرى" حين يهجم "خيرين" ، دون أن يتأكد من هوية من يهاجمه، على زوجة "شيبوتشين"، بدلا من "ميرتشوتكينا" فتصرخ الأخيرة وينجلي الأمر وتُسمع آهات التذمر ومن ثم يدخل الموظفون ويبدأ الاحتفال. رئيس البنك المنهك يكف عن الكلام ويفكر ويقاطع خطابات الآخرين ويهمهم بكلمات غير مفهومة وتنتهي المسرحية!.

الأحتفال بالذكرى لم يكن موفقا وهي عمليا كالمراوحة في المكان. هذا هو نمط الحياة الذي نعرفه من خلال قصص "تشيخوف" التي كتبها في ثمانينات القرن التاسع عشر ولكن السخرية هنا أكثر قسوة لأن الانطباعات التي تركتها رحلته إلى "ساخالين" كانت لا تزال عالقة في ذهنه. "ساخالين" كانت برأيه كالجحيم.

بعد "الذكرى" لم يعد "تشيخوف" يكتب مسرحيات هزلية قصيرة و قصص ساخرة أخرى وانقطع فترة بلغت خمسة أعوام(حتى عام 1887) ومن ثم نشرت له ثلاث قصص:" مقتطفات" و"يوميات مربي عجوز" و"صيد السمك" التي لم تعد لقصص "تشيخوف" فيها تلك اللهجة الساخرة التي اعتدناها، ورغم هذا لم تخل كتاباته، حتى الدراماتيكية منها (في الفترة ما بين 1890 و1900) ، من  أبتسامة الكاتب ومقاطع مضحكة ومماحكات!...  

 

 

ولاتو عمر

 

المصادر والمراجع:

1-" د.ولاتو عمر "يوميات مسافر"(قصص مختارة لـ" تشيخوف") ترجمة عن الروسية ، دمشق،دار الحصاد 2009.

2- بولوتسكايا إ.""تشيخوف" الساخر"، موسكو، 1985.

3-ي. غورفيتش."عالم قصص "تشيخوف""،موسكو 1987.

4-المجلة العلمية التربوية:"الأدب في المدارس"،موسكو، وزارة التربية،نيسان 1998.

5- المجلة العلمية التربوية:"الأدب في المدارس"،موسكو، وزارة التربية،كانون الثاني 1996.

6-الأعمال الكاملة لـ"تشيخوف" من 18 مجلدا، موسكو، دار"ناؤكا"،1975.

 

 (*)- ميخائيل سالتيكوف-شيدرين-كاتب روسي معروف(1826-1889).