كثافة العقل – تكنوبارك (المرآب التقني)

مجلة "بلانيتا" العدد 11 / 2011

 

لقد أدركت البشرية منذ مئات السنين أهمية التقدم العلمي. فيما استطاعت الاختراعات والطرق المبتدعة (النوهاوي) أن تجعل صاحبها أقوى وأغنى، وأن تمنحه حزمة من الميزات إزاء منافسيه. لذا عمدت الأمم منذ دهور إلى إنشاء مخازن للمعرفة- كانت في البداية هي الأديرة، ثم الجامعات والمكتبات. ظهرت في القرن العشرين حوافز جديدة لتطوير العلوم: حربان كونيتان وواحدة باردة، وسباق تسلح.. وهاهم علماء مختلف الاختصاصات يشرعون في منتصف القرن العشرين بالتوحد لحل ذات المسائل. وهكذا ظهرت في الاتحاد السوفياتي المدن العلمية المغلقة. أنشئت أولاها في العام 1946. حيث انبرى العلماء السوفييت مع نظرائهم ، الذين تم المجئ بهم من ألمانيا الفاشية، في بحث ودراسة الفيزياء النووية. أسفرت تلك الدراسات والأبحاث في العام 1954 عن إطلاق أول محطة كهرنووية. عقب ذلك، أسرعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى إنشاء المعاهد- المدن العلمية، وخصصت أموالاً طائلة للجيش والأبحاث الفضائية، بينما غلت يدها عن التعليم. دفع هذا الوضع في  نقص التمويل، أشهر الجامعات الأمريكية "ستين فورد" إلى عرض أجزاء من أراضيها ومبانيها للآجار على الشركات التي ترغب بفتح مكاتب لها هناك. فجاءت شركات معروفة مثل: "هيوليت باكرد" و"ايستمان كوداك" و"جنرال إلكتريك"، وبمرور الزمن تطور هذا المجمع وأصبح الأشهر في العالم تحت مسمى "وادي السيليكون". يعمل حالياً في هذا المجمع أكثر من أربعة آلاف شركة، يفوق مجمل دخلها 500 مليار دولار.

المدينة- الأعجوبة في اليابان

خلافاً عن المدن العلمية السوفياتية المغلقة، لم تر المجمعات التقنية الأمريكية غضاضة في الإعلان عن نفسها. وطبيعي أن تهتم كل من أوروبا وآسيا بهذا المشروع الناجح والرائد. لكنهم والحق يقال، تناولوا الأمر من زاوية مغايرة تماماً. كان "وادي السيليكون" في أمريكا قد نشأ بجهود خاصة، وتطور عفوياً، بينما حاول العلماء ، بعد دراسة تجربة جامعة "ستين فورد" والمدن العلمية السوفياتية، تلمس طريقهم الخاص. في العام 1960 وعلى بعد 60 كم من العاصمة طوكيو بدؤوا ببناء مدينة جديدة- تسوكوبا. وقرروا جمع أفضل علماء اليابان فيها. استغرق بناءها 15 سنة وكلفت 5,5 مليار دولار. تسكوبا مدينة مدهشة منظمة أيما تنظيم ومريحة للغاية، حتى أن بعض الشركات قد جهزت مكاتبها بمساحات خاصة يستطيع العلماء الاستراحة فيها، والعودة للعمل بقوة متجددة. تضم المدينة جامعة باسمها ومعاهد ابحاث في جميع القطعات. ولجهة دعم الاختراعات وإطلاقها، بدأت الحكومة اليابانية في العام 1982 ببناء مدن صغيرة للتجارب، وصل عددها إلى اثتني عشرة.

أحد أساتذة تسوكوبا- هيرو إيفاتا- اخترع جهازاً يستقرأ كل خطوة للإنسان، مع وضع أحد شرائحه تحت قدمه، قد يمكنه من تجاوز عوائق لم تخطر على بال بشر..

وقد أهدت هذه المدينة- الأعجوبة اختراعات عديدة للعالم.

لم تتخلف بريطانيا عن هذا الركب وطرحت حكوماتها تساؤلات حول ابتعاد العلوم والمعرفة عن الصناعة. فجاء الجواب من قبل علماء جامعة "كامبريدج"، فوضع البروفسور- نويل موت- أول مشروع لمجمع تقني بريطاني. وفي العام 1969 صادقت الحكومة على هذا المشروع. وبدأت أولى مكاتب المجمع بالعمل في العام 1973. وتضاعفت مساحة هذا المجمع حتى يومنا هذا بخمس مرات. تعمل الآن في هذا المجمع مئات الشركات وأكثر من خمسة آلاف شخص. ويفخر أصحاب هذا المشروع بأن الدولة البريطانية لم تنفق من الموازنة قرشاً على بناءه.

تم إقامة معظم هذه المجمعات التقنية – العلمية قريباً من الجامعات، لكن الحكومة الصينية قامت بخلاف ذلك، فذهبت إلى قرية "شينتش جين" لصيد الأسماك، وقررت في منتصف السبعينيات إقامة مجمعها التقني فيها. وفي العام 1985 أصبحت هذه القرية مركزاً صناعياً ضخماً، ثم قررت الحكومة تحويلها إلى مجمع تقني. ورغم وجود جامعة صغيرة في هذه القرية افتتحت في العام 1984، وبدا معها المشروع غير عملي، إلا أن الصينيين كانوا قد حسبوا لخطوات بعيدة ومتقدمة، وكانت الخطة لديهم جاهزة للتنفيذ، وهي مؤلفة من ثلاث مراحل: أولاها إقامة مجمع صناعي عصري؛ وثانيها أن على هذه المدينة الصناعية أن تقيم صلات مع أبرز مراكز الأبحاث في الصين والعالم، لإقحام العلوم في الصناعات؛ أما المرحلة النهائية فهي الانتقال لبيع التقنيات الجديدة في جميع أنحاء العالم. في العام 1992 وخلال سبع سنوات، أصبح هذا المجمع أحد أبرز مصممي التقنيات العالية في الصين. حتى فيتنام الزراعية قد أسست لها في العام 1998 هكذا مجمعاً، ومساحة مجمعها حوالى 1,3 ألف هكتار، يتم فيه تأهيل أخصائيين وخبراء في مختلف المجالات العلمية، للشركات والمؤسسات الفيتنامية. وكذلك في أرمينيا وليتوانيا. وشيدت مجمعات في معظم الدول الأوروبية، وتنحو معظم الدول هذا المنحى، مدركة أن المستقبل للتقنيات العالية، ومن الأفضل ابتداعها لدينا من أن نشتريها لدى الغير، فهل ينتبه، ولو بعض العرب، إلى هذه الأمر الملح والحيوي؟!