أوروبا تعبت من حرية الكلمة

مجلة "بلانيتا" العدد 7 - 2011

 

حرية الكلمة- بقرة أوروبا المقدسة. والتطاول على "حيتان الأقلام" ينقلب دائماً فضائح  وتحقيقات كبيرة. وهاهي المؤسسات الصحافية المتنفذة، على مدى عقود، تتلف أعصاب الساسة في مختلف الدول، وغالباً ما تفوز في النزاعات. بيد أن الأمر هذه المرة، قد شذ عن مألوفه في بريطانيا. إذ يتهمون صحافيي جريدة "نيوز أوف ذاوولد" (إحدى أقدم الصحف في بريطانيا والتي تصدر منذ العام 1843. وهي مذاك تختص بنشر النمائم حول الطبقة الراقية ونجوم الفن، والمشهورين في عالم المال والأعمال وأفراد العائلة الملكية. وصل عدد نسخها في أفضل أيامها- 2,8 مليون نسخة) يتهمونهم هناك بأفظع الذنوب. أما امبراطور الإعلام الشهير وصاحب الجريدة- روبرت ميردوك- فيهددونه بالسحق الكامل. الوزير الأول البريطاني يفكر بصوت مسموع، حول ضرورة إيجاد طريقة أكثر فاعلية لمراقبة وسائل الإعلام المحلية. وعلى مايبدو فإن التحقيقات مع موظفي السيد ميردوك تعد بأجل طويل. الوقائع التي نشرت حول هذه القضية حتى الآن، تشير بوضوح إلى تجاهل صحافيي الجريدة، خلال عشر سنوات، حق عدم المساس بالحياة الخاصة- حتى وصل الأمر إلى حد التنصت على أجهزة الرد الآلي لهواتف الغير (حوالى 4 آلاف شخص). أما جزاء هذه الجريمة لدى العدالة البريطانية- الغرامة والسجن. وصل عدد من تقدم ضد الجريدة المذكورة أعلاه في مطلع العام 2011 إلى أكثر من عشرين شخصاً. من بينهم النائب السابق للوزير الأول البريطاني- اللورد بريسكوت، ومحافظ لندن بوريس جونسون...

زيادة عديد المتضررين من مقالات الجريدة، دفعت إدارتها، التي أنكرت في البداية  سائر التهم، لوقفة تأمل. ثم لإجراء تحقيقات داخلية لطمأنة الرأي العام. فاعترفت بواقعة التنصت. فيما وُعد المتضررون من المشاهير بتعويضات مالية. وبدا أن الأمور قد عادت إلى نصابها، إلا  دماراً كبيراً طال سمعة الجريدة. بيد أن الأسوء كان قادماً. إذ بات في متناول الرأي العام قضية تنصت أخرى على الابن الأصغر للملكة- الأمير اندريو. لكن من حدد مصير الجريدة، لم يكونوا شخصيات مشهورة، بل بريطانيين عاديين. حيث راح صحافيوها يتنصتون على أقارب القتلى من العسكر وضحايا العمل الإرهابي، الذي حدث في لندن في تموز 2005. فانفجعت بريطانيا من هول الجريمة. على التوازي مع هذا، طفت قضية الطفلة البريطانية ذات الثلاثة عشر ربيعاً، التي اختفت بلا أثر في العام 2002. فعمد أحد صحافيي الجريدة إلى محو الزائد على شريط مسجل من حديث هاتفي لها، موهماً الأهل بأنها على قيد الحياة. أما عدد الشكاوى ضد الجريدة اليوم فيفوق 4 آلاف شكوى. وقد أقيمت مهرجانات خطابية في مدن بريطانية واعتصامات تطالب بالقصاص من الجريدة. ما حدا بالوزير الأول البريطاني- ديفيد كاميرون - للتصريح: "إن هذه الفضيحة تمس الشرطة والسياسة أيضاً، وليس الصحافة وحسب. أعتقد أنه لا بد لنا من نظام رقابي على وسائل الإعلام جديد تماماً. وإن التحقيقات التي ستجري بشأن هذه القضية ستقدم لنا توصيات لتحديد ماهية هذا النظام". بقي ميردوك لسنوات طويلة، وهو الذي يمتلك أربعاً من أكثر الصحف البريطانية نفوذاً ("تايمز" و "صندي تايمز" و" نيوز أوف ذاوولد" و"صن"، إضافة إلى قناة "سكاي" التي تبث الأخبار على مدار الساعة) بقي "صانع رؤساء الوزراء" في بريطانيا. غير أنه أشاح عن جوردن براون في السنة الماضية، فنزل بدار الرئاسة الواقعة على شارع "داونينغ ستريت" كاميرون. "واليوم تثأر طبقة الساسة من ميردوك لإذلاله لها، ولعبه بأعظم متنفيذيها"- تقول المحللة – إيما ستاونتون.

فقدت الصحيفة الثقة تماماً لدى الجماهير، وأزفت ساعة النهاية طاوية 168 عاماً خلت. إذ رأى آخر أعدادها النور في العاشر من تموز 2011، بجملة مودعة قالت لقرائها: "شكراً وإلى اللقاء"، تاركة وسطاً صحافياً محموماً، يحاول بكل ما أوتي من قوة سد الفضاء الذي خلفته الصحيفة المشهورة.

الناشر الأوروبي ورجل المجتمع المشهور – جولييتو كييزا- يزعم أن الكثير من وسائل الإعلام المشهورة، لا تتورع عن استخدام بعض الوسائل للوصول إلى السبق الصحفي. ويبدي أسفه على شيئ واحد وحسب:"حتى لو مات ميردوك، كأكبر أصحاب وسائل الإعلام ، سيحل مكانه كثيرون، يفعلون الشيء ذاته".