الفن التشكيلي وطب الأسنان في القرن السابع عشر

تأليف: 

الفن التشكيلي وطب الأسنان في القرن السابع عشر 

ممدوح حمادة

مع تحول الفن بعد عصر النهضة من توجهاته الكلاسيكية التي استمدت موضوعاتها من الدين والأسطورة وفن البورتريه، انتقل الفن التشكيلي إلى تصوير موضوعات لها علاقة بالحياة، وهذا ما أثر كثيرا على تطور فن الكاريكاتير تبلوره كفن مستقل.

 

حيث أن الكثير من الموضوعات الحياتية كانت تحتوي على مضمون هزلي أو ساخر، وبسبب هذا التوجه أيضا سعى الفنان للتعبير عن مضمون لوحته إما بالحركة أو بالخط اللذين خرج بهما عن إطار المعايير التشريحية الجامدة مما خلق مقدمات لفن الكاريكاتير أيضا.

وهذه المادة هي بداية لسلسة من المواد تتحدث عن المهن المختلفة في لوحات الفنانين التشكيليين وخيوط الكاريكاتير في هذه اللوحات.

ونبدأ بمهنة طب الأسنان.

مع هذه المادة نرفق مجموعة لوحات تعود في معظمها إلى القرن السابع عشر، حيث لم يكن هناك طب أسنان بالشكل الموجود عليه حاليا، وكان الحلاقون على الغالب هم من يمارس هذه المهنة، وربما كان عمل الطبيب في ذلك الحين يقتصر على خلع الأسنان، ولم تكن عملية الحشو والحفر موجودة، وربما لم تكن ممكنة بسبب عدم استخدام المخدر في ذلك الوقت، كما أن العيادات ليس فيها أي وجه شبه بين عيادات عصرنا والمعقمات لم تكن تتعدى الكحول كما يبدو من الزجاجات التي تظهر في معظم اللوحات، وبما أن كليات طب الأسنان والرخص الصادرة عنها لم تكن موجودة في ذلك الوقت فقد كان من السهل لأي محتال أن يدعي ممارسته لهذه المهنة فكان يختلط المختصون بالحلاقين والمحتالين وهذا ما تعبر عنه اللوحات المذكورة.

أول ما يجمع هذه اللوحات هو التعابير الحركية للمرضى حيث نشاهد جميع أبطال هذه اللوحات في حالة تشنج مد كل منهم يده وفرد راحته وكأنه يطلب النجدة، أو شد قبضته وكأنه يريد أن يعتصر الألم الذي في داخله ويخرجه خارج بدنه. ولأمر الثاني هو ملامح الرعب التي تسيطر على وجوه هؤلاء الأبطال، ففي عصرنا الراهن وفي ظل وجود كل الإجراءات التي تخفف الألم عن المريض فإن عقدة طبيب الأسنان تكاد تكون عقدة اجتماعية، حيث أكثر ما يخشاه الإنسان هو الذهاب إلى طبيب الأسنان الذي يشكل له رعبا حقيقيا، بل أن هناك أشخاص مثل الزعيم الصيني ماو تسي تونغ الذي وصل مرض أسنانه على مرحلة تعفن اللثة ولكنه فضل تحمل الألم الفظيع الناتج عن ذلك على الذهاب إلى طبيب الأسنان كما ورد في مذكرات طبيبه الشخصي، فما بالك كيف كانت النظرة إلى طبيب الأسنان في ذلك الوقت حيث يترتب على المريض مواجهة الألم وجها لوجه دون أي تدخلات أخرى، إن اللوحات تعبر عن ذلك الرعب بشكل واضح من خلال الحركة العامة للجسم والخطوط التفصيلية لعضلات الوجه.

 

(1)

وجوه الأطباء حملت تعابير أخرى، فبينهم من كانت ملامح وجهه تدل على الحيادية تسيطر عليها حالة استرخاء وانعدام التعبير كما في لوحات غريت دوي Gerrit Dou (1590- 1675) (2) حيث تدل ملامح وجه الطبيب على الخبرة التي يوحي بها انعدام أي تعبير من وجهه سوى التركيز بعينيه على فم المريض، بينما نلاحظ على وجه الطبيب في لوحتي غيريت فان هونثورس

Gerrit van Honthorst (1590- 1656) (3 و 9) التي يبدو فيهما وجه الطبيب نفسه، نلاحظ ابتسامة اختلطت فيها السخرية بالود في اللوحة (3) بينما بدا على وجهه الانهماك في اللوحة

الثانية(9)، أما في لوحة ديفيد إلجوفين تينيرس David el joven Teniers (1610-1690) (5) فإننا نلاحظ وجه الطبيب خال من أي تعبير سوى التركيز على تفاصيل عمله، وكذلك الأمر في لوحة جان ستين Steen Jan (1625- 1679) ( 6)، ومنهم من كانت تفاصيل وجهه توحي بالسادية، كما في لوحة كما في لوحة ميخائيل أنجلو كارافاجو Caravaggio Michelangello

(1573-1610) (1) حيث نرى الطبيب يكز على أسنانه وقد جحظت عيناه ، مما يعبر عن موقف هذا الفنان أو ذاك من طبيب الأسنان.

(2)

يوحد هذه اللوحات جميعا تقريبا الدراما التي تحملها فهي لا تصور فقط عملية خلع الأسنان وإنما تقدم صورة للجو الذي كانت تجري فيه هذه العملية ففي معظم اللوحات جمهور متفاعل مع الحدث يمكن رصد انفعالاته من تلك التعابير المرتسمة على الوجوه التي ترتسم عليها تعابير مختلفة من وجه لآخر فبينما يتابع البعض العملية بنوع من الفضول الحيادي نرى البعض الآخر وقد ارتسمت على وجهه ملامح الرعب بينما نرى البعض الثالث يراقب بنوع من المرح حيث .

ففي لوحة كارافاجو (1) نرى تفاعلات مختلفة من قبل الجمهورـ فالشخص المتكئء بكوعه على زاوية الطاولة يراقب المشهد بفضول حيادي أما الشخص الذي يقف قربه فيتابع المشهد بنوع من الخوف وكذلك يفعل الباقون بدرجات مختلفة، وفي لوحة هونثرست الأولى (3) نرى ملامح الخوف على بعض الوجوه بدرجات مختلفة أيضا لدرجة دفعت المراهق إلى التشبث بتلابيب الشخص الواقف قربه والذي ربما كان أمه، بينما نرى آخرين يتابعون المشهد بابتسامة مرحة تدل على عدم الاكتراث بآلام المريض وخاصة الرجل الذي يعتمر القبعة في الخلف، أما في لوحته الثانية (9) فإن شدة الألم دفعت الجمهور لمساعدة الطبيب بتثبيت المريض ومنع حركته بينما بقي الرجل الذي يقف قبالة المريض يحدق بفضول تشوبه الرهبة في فم المريض وكأنه يشاهد عرضا مشوقا، أما لوحةأدريان فان أوستادي

Ostade Adriaen van (1610-1685) (4) فيبدو أن أحداثها تجري في البيت وسواء أكان الأمر كذلك أم لا فإن الجمهور يتابع بانفعالات مختلفة فبينما نرى الرهبة في سكون المرأة العجوز نرى الفضول في حركة الرجل العجوز الذي يتكئ على عكازه، بينما يختفي طفل أو طفلة خلف المرأة العجوز، أما في لوحة ستين التي تجري أحداثها في الهواء الطلق (6) فإن الفضول يسيطر على الجمهور لدرجة أن طفلا أطل برأسه من بين الجموع،وفي لوحة جان مينسي مولينير

Miense Molenaer Jan (1610-1668) (7) فإن التهكم الودود اختلط بالشفقة في ابتسامة المرأة التي ربما كانت زوجة المريض،أما لوحة ثيودور رومبوتس Rombouts Theodor (1597- 1637) (8) فقد تحول المكان إلى ما يشبه البرلمان حيث تجري النقاشات وتدور أحاديث جانبية في الموضوع في الجهة اليسرى من اللوحة، بينما يتابع باقي المتفرجين المنظر بملامح مختلفة.

(3)

لا شك أن الفنانين حين توجهوا لنقل هذه الموضوعات فإن غايتهم كانت تصوير حالة إنسانية واجتماعية وليس رسم صور تذكارية للأطباء أو المرضى، وبهذا فقد انتقلوا من الموضوعات التقليدية التي كانت تجعل من الفنان حرفيا كباقي الحرفيين إلى شخص متفاعل مع الحياة والمجتمع، ورغم أن الرسم الكاريكاتيري كان قد ظهر قبل ذلك أو بشكل متزامن معه فإنه لم يكن فنا متواصلا وإنما اكتفى بالظهور في فترات الأزمات السياسية كما في فترة الصراع بين مارتن لوثر والكنيسة الكاثوليكية، إلا أن التوجه الجديد جعله يسير خطوات جديدة في تحوله إلى نوع من أنواع الفنون التشكيلية، وإن كانا هذه اللوحات بحد ذاتها لا تنتمي إلى الكاريكاتير كنوع من حيث المبالغة في الخطوط إلا أنها اختارت شخصياتها من تلك الأنماط غير المألوفة لوجوه وأجسام البشر، والتي تحمل في داخلها بذور المبالغة بشكل طبيعي، انظر مثلا وجه الرجلين على يسار لوحة ثيودور رومبوتس (8) ولاحظ الملامح التشريحية للرجل الذي يحمل النظارة ويحدق في المريض(أو المريضة) إنها ملامح موجودة في الواقع وليس فيها خروقات تشريحية واضحه، ولكن هذه الملامح نفسها تصلح لفنان يلعب أدوارا كوميدية فهي غير شائعة، لاحظ كذلك أنف الشخص الذي يقف خلفه اليس فيه بعض المبالغة؟ وإن لم يكن كذلك فهو ليس ذلك الأنف المثالي من وجهة النظر التشكيلية الكلاسيكية، وشكل الرجل العجوز في لوحة أوستادي (4) وحتى ملامح الطبيب في لوحة تينيرس (5)، ولو دققنا في ملامح الشخصيات جميعها جيدا لعثرنا على نماذج غير مألوفة في معظمها، مما يدل على جنوح الفنانين على الخروج على القواعد والمألوف في تناول الشخوص والموضوعات معا.

(4)

وفي مواضيع قادمة سنتوقف عند علاقة الفن التشكيلي بمهن أخرى حازت على اهتمام الفانين التشكيليين في القرون السابقة، وربما كان لها دور في دفع تطور فن الكاريكاتير.

(5)

(6)

(7)

(8)

(9)