الثورة

تأليف: 

عندما فتحت له الباب ورأيت تلك الابتسامة الودودة على وجهه، تكون لدي وهم أنه ربما صديق نسيت ملامحه بعد غياب استمر عشر سنوات عن البلد. دخل قبل أن أدعوه للدخول، وقبل أن يعرّف بنفسه طمأنني قائلا: لا تخف، لا يوجد ما يبعث القلق، أنا فقط أقوم بدراسة عنك، أما أنا ورغم استغرابي فقد داعبت غروري فكرة أن هناك من يقوم بدراسة عني، ظننته صحفيا وكدت أقول له (ولكنني لم أقدم شيئا بعد يستحق الدراسة، فأنا بالكاد تخرجت)، كنت واثقا أن بعض القصص المتواضعة التي نشرتها في مجلات متواضعة لم تكن كافية لكي يقوم باحث ما بدراسة عني، ولا أظنه مطلعا على مسوداتي التي لم تنشر، والتي من جهة أخرى ربما لا تستحق الدراسة، ولكنني فضلت التريث حتى أتأكد مما يريده. هو بدوره طمأنني أنه صديق  لقريبي أبي توفيق، وهنا زادت الأمور تعقيدا، فقد كنت واثقا أن أيا من أصدقاء أبي توفيق لا يمتلك الأهلية لكي يقوم بدراسة، فعن أية دراسة يتحدث هذا الشخص الغريب، الذي دخل دون أن يعرّف عن اسمه أو عن الصحيفة التي يعمل فيها. وقبل أن أجد أي إجابة على تساؤلاتي كان قد بدأ بتوجيه الأسئلة لي، سألني أولا عن اسمي الثلاثي، وبعد أن زودته به ودونه في دفتر لديه سألني عن الاسم الثلاثي لأبي، ثم الاسم الثلاثي لأمي،وقد زودته بجميع هذه الأسماء الثلاثية رغم استغرابي حول حاجة الدراسة لهذه الأسماء المفصلة، وقد زاد استغرابي بعد ذلك عندما بدأ يسألني عن أسماء أخوتي وأخواتي وعملهم وعملهن  والمستوى التعليمي لكل منهم ومنهن والحالة الاجتماعية لهم ولهن وأسماء زوجاتهم وأزواجهن حتى كدت أصرخ به، أنا خريج كلية الصحافة الحديث الذي لا يزال يحفظ  قواعد العمل في هذه المهنة عن ظهر قلب: ما هكذا تكتب الدراسات يا أخي، صحيح انه ليس لدي إبداعات تكتب عنها في دراستك، ولكن هذا ليس مبررا لكي تملأها بأسماء لها أول وليس لها آخر، القراء لا يهمهم كل هذه المعلومات التي لا ضرورة لها، حتى بوشكين لن تجد اسم أمه في دراسة عنه. ولكنني رغم سذاجتي فإنني بدأت أدرك ماهية هذه الدراسة في المرحلة التي بدا يسألني فيها عن أسماء أصدقائي الثلاثية، وهنا حدث ارتباك لدي، فمن أتهم من بين هؤلاء المساكين الذين أعرفهم بأنه صديقي، لأنه من غير الممكن أن يقوم بدراسة عني إذا لم يكن لديه معلومة ما، ربما كلمة قلتها، ربما موقف اتخذته ولا أذكره الآن، وربما افتراء، ولكن لا بد من انتقاء ضحية فهو أمر لا بد منه، ولذلك فقد انتقيت جمال متهما إياه بصداقتي، فهو الأعزب الوحيد بين أصدقائي والذي في حال تعرضه لضرر ما فإن العواقب الوخيمة ستتوقف عنده. تابع أسئلته التي لم تكن تختلف كثيرا عما سبقها من أسئلة، إلى أن وصل إلى السؤال الذي لم أكن أتوقعه، والذي يمكن وصفه بالسؤال الخارج عن السرب، حيث سألني عن موقفي من الثورة، وهنا بدأت أحسب، هل هو يوجه لي هذا السؤال لكي يعرف فعلا موقفي من الثورة فقط لاغير، أم أن موقفي من الثورة سيرشده إلى موقعي الفكري بشكل عام، وسواء كان هذا أم ذاك هو الدافع خلف سؤاله فقد تهيأ لي أن رأيي بالثورة لا يتعارض مع عدائه لها فأجبته لا تملقا ولا خوفا من العواقب: - تجربة وفشلت.. ولكن المفاجأة كانت عندما اختفت ابتسامته ونظر إلي نظرة تدل على عدم ارتياح، بل على استنكار وتساءل: - هذا هو رأيك فيها؟ استغربت في داخلي (ما بهم هل أصبحوا من أنصار الثورة على حين غرة؟)، ولكن وبما أنني لمحت الاستياء في ردة فعله فقد أردفت تحسبا: - المشكلة ليست في الثورة.. المشكلة في القائمين على الثورة، التطبيق سيء. وكنت بإجابتي هذه كمن صب الزيت على النار، حيث رمى القلم جانبا وقال مستنكرا: - اسمع..إكراما لأبي توفيق.. لن اكتب هذا الكلام لكي لا  أخرب بيتك.. ولكن نصيحتي لك أن تراجع أقوالك. أوقعني في حيرة من أمري بكلامه هذا، لم اعد أعرف اهو يريد إنقاذي فعلا، أم يريد توريطي، فمن المستحيل أن تكون التوجهات قد تغيرت إلى هذه الدرجة أثناء فترة غيابي عن البلد، يا أخي حتى لو تغيرت كنت سمعت، ولذلك فقد قررت أن أمسك العصا من المنتصف فقلت: - أنا اعتبر أن الثورة نجحت، ولست مقتنعا مع المسؤولين الذين يقولون إنها فشلت. هنا أنا أوقعته في حيرة، فالملامح التي ارتسمت على وجهه تدل بأنه يسمع للمرة الأولى أن هناك مسؤولين يقولون بفشل الثورة وتساءل بأدب تحسبا لأن يكون هناك فعلا مسؤولين يقولون بذلك: - عفوا.. أي مسؤولين؟ - غورباتشيوف.. ليغاتشوف.. ريجكوف.. كلهم أعلنوا ذلك صراحة.. وهنا كاد أن يقفز وصاح بصوت عال - وما دخل هؤلاء بالثورة.. أما أنا، العائد بعد عشر سنوات دراسة في الاتحاد السوفييتي، الذي كانت ثورة أكتوبر التي تشغل مكانا مميزا في جميع مناهجه، قد طردت من راسي كل الثورات الأخرى  فقلت: - إذا كان هؤلاء لا علاقة لهم بثورة أكتوبر.. فمن الذي له علاقة فصرح وقد رمى السجل الذي في يده جانبا وفرد يديه - شو بدي بثورة بطيخ أكتوبر أنا.. عبسألك عن ثورتنا وهنا تذكرت وأدركت كم هو حليم لأنه تحمل مني كل هذه الإساءات وقلت: - آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآ.. نجحت طبعا..
تنفس الرجل الصعداء وعلى وجهه ابتسامة لا بد أن سذاجتي هي التي أثارتها ثم دون في سجله مرددا كلمة غير التي قلتها:

- إيجابي.
ثم شرب القهوة التي أعدتها أمي وانصرف.