دَميرقَايا (أسطورة شرقية)

قصة:الكسندر كوبرين

         ترجمة: ولاتو عمر

 

                                             دَميرقَايا

                                        (أسطورة شرقية)

  

    هدأت الرياح. قد نضطر إلى قضاء ليلتنا في عرض البحر. يبعد الشاطئ حوالي ثلاثين كيلومترا تقريبا.كان مركبنا المؤلف من ساريتين يميل من جانب إلى جنب بكسل. أما الأشرعة المبلولة فكانت مبسطة.

    لف المركب ضباب ابيض كثيف ولم تكن ترى النجوم ولا السماء ولا البحر ولا الليل.

    لم نوقد النار.

   حدثنا سعيد ابلي العجوز القذر والحافي,قبطان المركب بصوت خفيض ورزين قصة قديمة صدقتها كاملة.صدقتها لأن الليل كان صامتا بغرابة ولأن البحر غير المرئي من تحتنا ينام ويغطينا الضباب ونبحر ببطء في السحب البيضاء الكثيفة:

    "...كان اسمه:دميرقايا ومعناه:الصخرة الحديدية.سمي بهذا الاسم لأن هذا الشخص لم يكن يعلم ما هي الرحمة والحياء والخوف .

   كان يمارس السلب مع عصابته في ضواحي اسطمبول وفيساليا المباركة ومقدونيا الجبلية ومراعي بلغاريا الخصبة. لقد أهدر دماء تسعة وتسعين شخصا بينهم النساء والعجزة والأطفال.

    أحاط به في إحدى المرات جيش السلطان القوي-أطال الله بعمره!.قاوم دميرقايا ثلاثة أيام كذئب محاصر بقطيع من الكلاب. وتمكن في اليوم الرابع من التسلل والفرار ولكن وحده, لأن قسم من أعوانه قضى نحبه في أثناء المطاردة والقسم الآخر لقي حتفه على أيد الجلادين على الساحة الدائرية في اسطمبول.

   استلقى دميرقايا بالقرب من موقد النار جريحا وينزف دما في كهف يصعب الوصول إليه حيث آواه رعاة الجبال المتوحشين. وفي منتصف الليل ظهر له ملاك نوراني يحمل سيفا متوهجا عرف فيه دميرقايا ملك الموت-رسول السماء :عزرائيل وقال له:

    -هذه هي مشيئة الله.أنا جاهز للموت.

    لكن الملاك قال:

    -كلا, يا دميرقايا, لم تحن بعد ساعتك.أسمع مشيئة الله.عندما تصحو من سكرات الموت أذهب وأحفر الأرض واخرج كنوزك وحولها إلى ذهب. ومن ثم اذهب إلى الشرق فورا وسر إلى حين أن تصل إلى مكان تتقاطع فيه سبعة طرق.تبني هناك بيتا بغرف قريرة وتفرشه بآرائك رحيبة وتكون مياه نوافيره صافية من اجل الاغتسال وان لا يخلو البيت من الطعام والشراب للغرباء ومن القهوة الفواحة وأراجيل ذات رائحة عطرة من اجل المرهقين .ناد على كل راجل وراكب واخدمهم مثل العبد الذليل.واعتبر بيتك بيتهم وذهبك ذهبهم وجهدك راحة لهم واعلم بأن الوقت سيحين عندما يغفر الله لك ذنوبك الخطيرة ويسامحك على دماء أبنائه.

    لكن دميرقايا سأل:

    -أية إشارة سيريني ربي عندما يصفح عني ويغفر ذنوبي؟....

    أجاب الملاك:

    -تناول من الموقد الذي يحترق بالقرب منك جمرة ملتهبة مغطاة بالرماد وازرعها في الأرض وعندما يكتسي الخشب الميت لحاء جديدا ويثمر, اعلم بان ساعة الصفح قد حلت.

    مضى على ذلك الوقت عشرون عاما.انتشرت في أصقاع بلاد السلطان-أطال الله بعمره-صيت ذلك المنزل بالقرب من الطرق السبعة بين جدة وسميرني.يخرج الفقير من هناك وفي جعبة سفره النقود والجائع شبعان والمتعب منتشي والجريح شاف.

    عشرون عاما.عشرون عاما طويلة كان دميرقايا يتطلع نحو قطعة الخشب الساحرة المغروسة في باحة المنزل إلا أنها بقيت سوداء لا حياة فيها.وبدأت تخبو عيون دميرقايا الشبيهة بعيون الصقر وانحنت قامته الصلبة وابيض شعر رأسه وأصبح بلون جناح الملاك.

    وفي صباح أحد الأيام سمع دميرقايا وقع سنابك خيل فركض إلى الطريق فرأى فارسا ينطلق مندفعا على حصان مرغي ولاهث.اندفع نحوه دميرقايا وامسك الحصان من لجامه وتوسل إلى الفارس:

    -آه يا أخي,أرجوك أن تعرج وتدخل منزلي لتنعش وجهك بمائي وتسترد قواك بالمآكل والشراب ودع شفتيك تتلمظان بالنارجيلة العطرة.

     لكن الفارس صرخ بحنق:

   -دعني أيها العجوز!دعني!.

  وبصق في وجه دميرقايا وضربه بمقبض السوط في رأسه وتابع سيره.

   غلت دماء  قطاع الطرق في عروق دميرقايا فألتقط حجرا ثقيلا من الأرض ورماه في اثر المسيء فحطم جمجمته.مال الفارس في سرجه وترنح وأمسك برأسه وسقط على الطريق المغبرة.

    ركض دميرقايا نحوه وقلبه مليء بالهلع وقال له بألم وحزن:

   -لقد قتلتك يا أخي!!.

   لكن المحتضر أجاب:

    -ليس آنت الذي قتلني وانما يد الله.اسمع:أن حاكم ولايتنا رجل ظالم وجشع وغير عادل.لقد حاك أصدقائي مؤامرة ضده لكن أغوتني المكافأة النقدية الثمينة في حال إفشاء سرهم وخيانتهم وعندما سارعت لكي أفشي بالسر أوقفني الحجر الذي رميتني به.هذه هي مشيئة الله.وداعا.

    عاد دميرقايا مكروبا وحزينا إلى المنزل.لقد انهار سلم الفضيلة والتوبة الذي كان يتسلقه بصبر إلى الأعلى عشرون عاما كاملة.انهار فجأة من تحته في صباح صيف ما.

   ألقى بنظرة يائسة نحو ذلك المكان الذي اعتاد التوجه إليه كل يوم,إلى ذلك الجذع الأسود وفجأة!يالها من أعجوبة!!-لقد رأى كيف تتفتح أمام عينيه براعم جذع الشجرة الميتة وكسا الاخضرار الجذع وتفتحت عليه أزهار صفراء طرية . سقط حينها دميرقايا على الأرض وبكى فرحا.لقد تذكره الله العظيم و الرحيم وسامحه على الأرواح التسعة والتسعون التي أزهقها بسبب قتله خائنا واحدا...".

 

                                                                          عام 1906