الاخـتـيـار

تأليف: 

المكان: زريبة أبقار، في حقول إحدى قرى الوطن العربي!

الزمان: الزمن الحاضر.

 

  البقرة المرقطة، تسير مرحة، تلوِّح بذيلها يمنة ويسرة متجهة نحو الزريبة.

-   أيتها البقرات، صاحت المرقطة عند وصولها إلى مدخل الزريبة، موجهة كلامها إلى صديقاتها، لدي خبر سمعته اليوم، لو أقوله لكنَّ لوقعتنّ أرضاً إما من الفرح أو من فرط المفاجئة! سوف تقعن أرضا بالتأكيد إذا قلت.

-       ما هو الخبر؟ صوت تردد من داخل الزريبة، صوت واحد قالته كل البقرات.

-   ياله من خبر! ياله من خبر! كررت المرقطة كلامها، وكانت مسرورة جداً متباهية  لأنها أصبحت محط اهتمام الجميع ـ سوف تصيبكن الدهشة بالتأكيد!

-       لقد أثرت فضولنا أيتها الوقحة، لماذا تمدين بالكلام، قولي ما هو الخبر الذي سمعتيه قالت البقرة الصفراء بانزعاج.

-   طيب ... طيب ... ،لا تغضبي .. حسن اسمعن! وقفت المرقطة وسط زميلاتها بغرور وقالت: قريبا سيجلبون لنا ثوراً جديداً، أي إلى زريبتنا! يقولون لزيادة الإنتاج، ثور أمريكي مؤصَّل! هل تتصورن ذلك؟

-       آآآآهـ ... آآآآآهـ، قالت البقرات بعد صمت وذهول!

-   اقتربت طويلة الشعر من المرقطة وقالت: أمريكي! ماذا يعني ذلك؟ وثورنا ذو القرنين الضخمين، إلى أين سيذهبون به؟ وماذا سيكون دوره بعد ذلك؟

-   بماذا ينفعنا ثورك ذو القرنين؟ قالت أخرى، إنه لا ينفع بشيء، ولا يهتم بنفسه وتخرج منه رائحة نتنة، وإنه أناني أيضا، يدخن أسوأ أنواع السجائر، حتى صوته أصبح كصوت عجوز، والأكثر من ذلك إنه يخرج متى يريد ويعود متأخراً متعباً لا يقوى على شيء، ولا نعرف مع من يجلس طيلة تلك الفترة.

-   هذا غير صحيح، قالت طويلة الشعر، إنه في أكثر الأحيان لا يدخن، وفي أكثر الأوقات يكون قويا ومهتما بنفسه، ولا تفوح منه رائحة عفنة كما تقولين، وانه يولينا جميعاً اهتمامه بلا تفرقة. وأضافت بتهكم، من يسمعكن يظن أن ثوركن الأمريكي "سوبر مان"، وأنا أعرف أنه في أمريكا يدخنون بشراهة! وستكون المفاجأة، عندما نعرف بأن ثوركن "الأمريكي" يدخن كل شيئ، ويتعاطى المشروبات الكحولية ومن الممكن أن يكون مدمنا على المخدرات، لأن هذا أمر طبيعي عندهم.

-   نعم .. نعم .. ، قالت واحدة بصوت مرتجف: الأمريكي يتعاطى المشروبات الكحولية بالتأكيد! ومن الممكن أن يتعاطى المخدرات! وسوف يأتينا كل يوم سكران لا يستطيع الوقوف على حوافره، وتفوح منه رائحة الكحول وأشياء أخرى لا أريد ذكرها، لأن ذلك يولد لدي شعور بالغثيان، ويجر نفسه كالخنزير.

-       لا .. لا .. قالت المرقطة، سمعتهم يقولون أنه يعرف كل طرق التعامل مع الأنثى وبشكل حضاري علماني أيضا.

-   انظري واسمعي قالت واحدة موجهة كلامها لطويلة الشعر: بينما ثورنا خامل وغير نشيط وثقيل الوزن، وأحيانا يرفع حوافره موجها ضرباته لمن تعارضه منا.

-   هل سألتن أنفسكن لماذا يخرج الذكر من المنزل أحيانا؟ ولماذا يمارس العادات السيئة أحيانا أخرى؟ قالت طويلة الشعر بصوت عال لا يخلو من الغضب، موجهة كلامها للجميع، هل سألتن أنفسكن يوما ما هذا السؤال أيتها الغبيات؟ إنه يتعب ـ ويريد أن يروح عن نفسه قليلاً، هل من السهل أن يكون منتجاً؟ ويعيش أيضا مع كمية كبيرة من الثرثارات المملاّت مثلكن. يجب أن نشفق عليه ونراعيه، إنه يثير الشفقة. وعلاوة على ذلك نرفع أصواتنا عليه ونوجه له كلاماً فارغاً بسبب أو بغير سبب، فلذلك يخرج لينسى همومه بطريقته.

-   دافعي عنه كما تريدين، قاطعتها الصفراء، يجب أن نفكر في البداية وقبل كل شيء بنسلنا، احمي أنت نفسك! هل يستطيع ثور متعب مثل هذا يدخن أسوأ أنواع السجائر ويعود متأخرا إنتاج نسلاً قوياً وسليماً معافى؟

-   وما هو النسل الذي من الممكن أن يعطيه هذا الأمريكي؟ قالت طويلة الشعر بصوت مليء بالأسى وفيه نبرة نداء، تقف وقفة تهكمية بتعجب! لنفرض جدلاً أن ثورنا يدخن السجائر ويمارس العادات السيئة، لكنه يأكل كل شيء طبيعي من سهولنا ومروجنا الخضراء الفسيحة منذ ولادته إلى الآن، إنه يأكل من الحقول الخضراء ويتنفس الهواء النقي، أما الأمريكي فإنه سيكون محشواً بجميع أنواع الخلائط والأعلاف المركزة الكيميائية. وهل تظنّنَّ أن الأمريكان يهمهم أمرنا، إنهم أرسلوه إلينا لأنهم لم يعودوا بحاجة إليه، أو أنه الأسوأ لديهم! أو كي يضعفوا ويقطعوا نسلنا!

 ضربة قوية على باب الزريبة فتحت الباب على مصراعيه، إنه الثور ذو القرنين يقف على المدخل.

 ركضت إليه طويلة الشعر وقالت: يا ثورنا العزيز، أين أنت؟ إننا هنا نتكلم عنك وعن مصيرك! إننا بانتظارك.

 سار ذو القرنين إلى الأمام، يهز نفسه بقوة وعنف في وسط الزريبة، يهز رأسه يميناً ويساراً. 

-   هل شبعت من الخروج ليلا أيها الجميل؟ قالت واحدة بتهكم، إنك أصبحت مملاً بالنسبة لنا، لقد سئمنا من تصرفاتك! وصوتك أصبح كصوت العجوز، تتنفس بصعوبة، وشخيرك .. يملأ الزريبة ليلاً.

-       هكذا كل يوم أيها السمين، قالت أخرى، لا نعرف متى نستفيد منك! ومتى ستستطيع القيام بعمل مفيد للزريبة.

-   ألم أقل ذلك، مجرد دخوله إلى الزريبة بدأ الكلام الفارغ، نعم .. هنا أي ذكر سيصاب بالجنون من مثل هذه التصرفات، قالت طويلة الشعر، اقتربت منه وقالت له بحنان: على ما يبدو أنك متعب يا عزيزي! لا تستمع إلى بعض التافهات، فأنا لن أتخلى عنك حتى لو تخلى عنك العالم كله.

غضب ذو القرنين من هذا الكلام وشعر بالجحود وعدم التقدير، فانفرد بنفسه ووقف جانبا دون أن يبدي أي تصرف.

-   ها .. ماذا قلت؟ لن يكون منه أية فائدة! قالت الصفراء بتكدر بينما تضرب الأرض بحوافرها، لماذا أنتن صامتات؟ ... أقول للجميع، من سنختار في حال خيَّرونا؟ هذا الذي أمامنا ككومة لحم لا فائدة منها، أم الأمريكي الجميل؟

-       إنه أمر واضح ـ الأمريكي الموعود بالطبع! قالت المرقطة بسرعة.

-        وأنا أيضا أختار الأمريكي ـ قالت واحدة بأسف.

البقرة الجميلة مازالت إلى الآن صامتة لم تتكلم ولم تتدخل بأي نقاش، لكنها أرادت أن تقول شيئا بينما أرخت رموشها الطويلة.

-   أنا .....  بالنسبة لي لا أعرف من سأختار. إن ثورنا يثير الشفقة لدي، وأنا أتأسف لما يحصل له، لكنني مللت من تصرفاته وعاداته السيئة التي يمارسها.

-   أية تصرفات وأية عادات تقصدين أيتها الغبية؟ تدخلت طويلة الشعر ـ مع كل ذلك إنه يقف على قوائمه مرفوع الرأس، وإنه مازال قوياً.

فجأة اهتز ذو القرنين وارتجفت قوائمه الأمامية وانثنت ركبتاه وبدأ يتهاوى ببطء إلى الأمام. انهارت أعصابه فجأة من هول المفاجأة، بعد أن رأى هذا التحول المباشر في حياة الزريبة والخيانة من قبل زوجات الأمس . . حاولت طويلة الشعر مساعدته كي لا ينهار فأمسكت به، ساندته، لكن جسمه الضخم الثقيل كان أكبر من قوتها، فشعرت بالضعف وأنها لوحدها لن تتمكن من إسناده فصاحت منادية الجميع:

-   يا ساكنات هذه الزريبة! يا من أحببتن هذا المكان العزيز على قلوبنا جميعا! أوجه ندائي إلى كل واحدة يهمها مستقبل زريبتنا التي نعيش فيها منذ طفولتنا، لنقف جميعا مع ثورنا الجميل، ذو القرنين الضخمين، الذي قضينا معه أجمل سنوات عمرنا، ثورنا المنتج، ثورنا الوطني ابن البلد!

وقفت جميع البقرات كل واحدة في مكانها ترفس الأرض بحوافرها، تحركت الجميلة ذات الرموش الطويلة لتساعد صديقتها، لكن فجأة صرخت بها المرقطة بغضب: ارجعي ـ فسمعت كلامها ورجعت خائفة من المرقطة.

لم يلق الثور الوطني أية مساندة إلا من طويلة الشعر التي لم تستطع إسناده طويلا لوحدها، فسقط ذو القرنين الثقيل عليها ولم تستطع تخليص نفسها إلا بمساعدة زميلاتها اللواتي أخرجنها من تحت كتلتة الضخمة.

هنا وقف بحذر ثور غريب عند باب الزريبة المفتوح على مصراعيه، وقف بطريقة احتفالية مزهواً بنفسه، يخرج من أنفه بخار ساخن، حيا الجميع، تجمدت البقرات في أماكنهن من هول المفاجأة، فتذكرت المرقطة وقالت:

-       الأمريكي وصل؟ وأخذت نفسا عميقا.

-   أمريكي ... نعم أمريكي ... ، أكد الثور الجديد نفسه بينما كان واقفا بالقرب من البوابة، وأومأ برأسه وابتسم ابتسامة غير مفهومة وأغمض عينيه بعجرفة أو بخجل.

بينما ينظر ذو القرنين إلى الثور الجديد عريض الصدر، وإلى بقراته اللواتي بعنه ببساطة ونظر نظرة تقدير أخيرة إلى طويلة الشعر، وبدأ يلفظ أنفاسه الأخيرة من شدة القهر.