توليك أو الرقم 28

تأليف: 

كان حكمت يحترم توليك ويهتم به جدا، وبإمكاني القول أنه كان يدلله، بعكس الروس الذين كانوا يحاولون قدر الإمكان تحاشيه،. فلقد كان حكمت يعطيه في أغلب الأحيان زجاجة فودكا مع "مازتها" من "كشكه" الصغير، أما في حال "جاهز يته" -كما يقول الروس حين يصبح المرء ثملا جدا، فكان يعطيه مبلغا من المال. 

     أكد لي حكمت مرات عديدة بأن توليك فيلسوف ومثقف ومتنور ويقرأ ليف تولستوي وأنطون تشيخوف ونيتشه وغوته وغيرهم من الكتاب الروس والأجانب...لكن ما السبب في تشرده وتسكعه دائما بدون مأوى؟! أكد لي صديقي بأن توليك وصل إلى ما هو عليه بسبب الفودكا وإدمانه عليها وأنه باع شقته بمبلغ زهيد جدا ليلبي حاجته من الكحول...

      -إذن فهو بلا مأوى؟- قلت في نفسي: كل مشرد هو سبب بلواه!! وأغلب الروس لهم نفس الرأي، هذا ما فكرت به قبل أن يروي لي حكمت قصة توليك بإيجاز، فتصورت بعدئذ حياة توليك اليومية قبل تشرده، وكنت على يقين، معتمدا على خيالي وخبرتي المتواضعة في الحياة، من أن توليك كان يشرب في البداية فقط لأن ذلك يعجبه أو أن أصدقائه كانوا من السكيرين وحذا حذوهم، لأن الصديق السكير لدى الروس يعتبرك غريبا عليه ولست صديقا ولا تحترمه، إذا رفضت الشرب معه!..وعادة يسألك صديقك الروسي وبيده زجاجة الفودكا:-هل تحترمني؟، وإذا قلت له طبعا، فعليك أن تشرب معه، أيا  كان مزاجك في تلك اللحظة!! وإن تذرعت لسبب ما بعدم رغبتك ، فسيتهمك بالتعالي عليه لأنك لا تحترمه أبدا!.

    ولمعلوماتكم فقط، أن اسم توليك مشتق من اسمه أناتولي، وهو أسم التحبب، ولكل روسي، منذ طفولته، اسم تحبب مشتق من اسمه الأصلي يلتصق به إلى أن يبلغ سن الرشد، ولدى البعض يبقى اسم التحبب متداولا بين الأقارب ولدى البعض الآخر حتى الممات! أما في حالة توليك، فأن اسم التحبب بقي متعلق به وهو في سن الستين، على الأغلب ، بسبب تشرده...

     بدأت أرسم في مخيلتي صورة توليك وهو صغير، وكيف كان والده يشرب الفودكا كشربه للماء وأن والده كان يضربه لأقل هفوة وأنه كان يترك البيت والمدرسة مرارا ويفضل أن يقضي أوقاته بين أصدقاء السوء!..

     حين أخبرت حكمت بتصوراتي، قال لي، وهو القادم الجديد إلى روسيا:-مستحيل، فهو مثقف وقرأ الكثير من الكتب ولولا ذكائه ومعاناته لما وصل الحال به إلى هذا الحضيض!!. فأجبته بأن ما قلته مجرد نتاج مخيلتي لا أكثر!! لكن حين تحدثت إلى توليك المشرد، وجدته مثقفا فعلا، حدثني في الفلسفة اليونانية القديمة وفلاسفة القرن العشرين والفلسفة الماركسية، التي كان ينتقدها مرارا خلال حديثه. وكرر لي مقولة أرسطو مرارا: "من صح فكره، أتاه الإلهام"، ليثبت بأن الكأس أفضل وسيلة لتصحيح الفكر!.

       كان يعمل قبل تشرده مدرسا للفلسفة في إحدى جامعات موسكو  وطرد منها لأسباب مسلكية كما  جاء في قرار الفصل، أما توليك فأكد لي أن السبب سياسي وأما سبب تبدل أحواله، فكان إدمانه على الشرب كما توقعت وفقدانه لشقته...

    عهدت اللقاء بتوليك عند صديقي بين حين وآخر، أسأله عن صحته، التي لم يكن يعيرها أي انتباه، وعن آخر كتاب قرأه إلى أن اختفى ذات يوم وأخبرنا أصدقاء كأسه بأن قلبه توقف بعد شربه كمية كبيرة من الفودكا وتسممه بها وأنه دفن خارج المدينة في مقبرة "تشانيكوف"

     بعد سنين طويلة، دعتني إحدى الزميلات، وكانت سيارتها في ورشة الصيانة، الذهاب إلى المقبرة ذاتها حيث دفنت والدتها، وما إن وصلنا، حتى بدأت أتفقد المكان، ولأنني أزور مقابر الروس لأول مرة، بدأت أسألها عن هذا القبر وذاك، إذ أن بعض القبور أعتني بها بشكل جيد وأخرى تركت من دون عناية، كما أن بعضها دون صليب أرثوذكسي وهو صليب الديانة الروسية. وبينما هي تشرح لي لاحظت بالقرب من قبر والدتها قبورا أخرى مرقمة، تركت دون عناية لا تميزها عن الأرض المسطحة إلا بوجود صليب قديم يغطيه الصدأ وتمركزها في صف واحد طويل مفصول عن القبور الأخرى. سألتها: ولمن هذه القبور، قالت إنها للمشردين ممن لا أهل لهم ولا أقارب ولا بيت ومن لم يتم التعرف على هويتهم بعد وفاتهم...

     بينما كنت أقف بجانب الرقم28، تذكرت توليك المشرد  وقلت في نفسي، ربما يرقد هنا توليك، مدرس الفلسفة ذاك أو أحد رفاقه ممن كانوا يرتادون كشك صديقي حكمت من أجل قليل من الفودكا أو مازة ما يسدون به رمقهم وهم يشربون...أفصحت لصديقتي عن كل ما يجول في خاطري، فقالت هي أيضا:-لا أدري ولكن ربما، ربما يكون هذا القبر هو قبر توليك!. 

                                                                                      موسكو 2011