كليلة ودمنه (بين بيدبا وابن المقفع كما بين النهار والليل)

تأليف: 

كليلة ودمنه

بين

الملك دبشليم و كسرى آنو شروان وأمير المؤمنين أبو جعفر المنصور

وبين

 بيدبا و بروزيه و ابن المقفع

 

ربما كان كتاب كليلة ودمنة واحدا من بين أعظم الكتب في التاريخ، ليس فقط للعبر والحكم التي يزخر بها متنه، وليس فقط لكونه واحدا من بواكير القصة كنوع أدبي في التاريخ، وإنما كذلك لسيرته التي تزخر بالأحداث، ولارتباط عدد كبير من الأسماء به، فقد بدأت رحلة الكتاب كما يعلم الجميع  على إثر مواجهة بين الطاغية دبشليم  والفيلسوف بيدبا، كادت تودي بحياة الفيلسوف ولكن الحقيقة انتصرت، وأحدثت الحكمة في قلب الطاغية تغيرا جذريا جعلته ينقلب من حاكم مستبد إلى حاكم عادل، ثم بعد ذلك طلب الملك دبشليم من فيلسوفه بيدبا أن يكتب له كتابا يخلد اسمه فقام الفيلسوف بيدبا بتأليف الكتاب الذي بين أيدينا (كليلة ودمنه)  إثر عمل استمر لعام كامل قرأه بعده بيدبا على الملك بطريقة احتفالية جمع الملك خلالها اركان مملكته، وجعل من الفيلسوف الحكيم بيدبا على اثر ذلك شخصية تكاد توازي شخصية الملك دبشليم، وحصل تلاميذ الفيلسوف الذين ساعدوه في التدوين على جوائز ثمينة، وتم وضع الكتاب في بيت الحكمة الذي تقابله في عصرنا ما يطلق عليها المكتبة الوطنية، وأحيط بسرية فائقة لكي لا يتسرب إلى الآخرين وخاصة الفرس.

بعد ذلك استلم الحكم في بلاد فارس ملك يدعى كسرى أنو شروان، وكان مولعا بالعلم، وعندما سمع بالكتاب بحث بعناية عن رجل يستحق أن يمنح شرف نقل هذا الكتاب إلى اللغة الفارسية: ( فأمر وزيره "بزر جمهر" أن يبحث له عن رجل أديب عاقل من أهل مملكته، بصير بلسان الفارسية ماهر في كلام الهند، ويكون بليغا باللسانين جميعا، حريصا على طلب العلم، مجتهدا في استعمال الأدب، مبادرا في طلب العلم، والبحث عن كتب الفلسفة..) وبهذا الشكل دخل الطبيب بروزيه سيرة كتاب (كليلة ودمنه) فارسل بروزيه بمهمة تجسسية إلى بلاد الهند لكي يقوم بترجمة الكتاب إلى الفارسية وتسريبه من خزائن بيت الحكمة التي يقوم على حراستها جنود الملك، وهكذا تمكن بروزية بعد عملية تشبه إلى حد بعيد عمليات ما يسمى بالتجسس الصناعي، تمكن من نقل الكتاب إلى الفارسية ووضعه بين يدي قارئ الفارسية، فماذا كان من أمره؟ لقد استقبله الملك كسرى أنو شروان أفضل استقبال لدى عودته من الهند وأعطاه إجازة لسبعة ايام قام بعدها بدعوة نخبة أهل المملكة لكي يقرأ عليهم بروزيه ما ترجمه، وقد لاقى الكتاب صدى كبيرا وشعر الجميع بالسرور لترجمة هذا الكتاب إلى الفارسية، و(أمر الملك ان تفتح لبروزيه خزائن اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والفضة والذهب وأمره ان يأخذ من الخزائن ما شاء من مال وكسوة) ثم ساواه بنفسه ( وقال : يا بروزيه لقد امرت ان تجلس على سرير مثل سريري هذا وتلبس تاجا وتترأس على كل الاشراف)، ولكي لا نخوض في التفاصيل المملة يمكن القول باختصار أن بروزيه عاش بقية حياته حياة الملوك، وعومل هو وأسرته كأفراد من العائلة الحاكمة. وبهذا الشكل فإننا نرى أن بيدبا الفيلسوف مؤلف الكتاب بطلب من الملك دبشليم، انتقل بفضل كتابه إلى مصاف الملوك، وبروزيه مترجم الكتاب إلى الفارسية بأمر من الملك كسرى أنو شروان،  انتقل بسبب ترجمته للكتاب إلى مصاف الملوك.

 

ننتقل الآن إلى ابن المقفع الذي ترجم الكتاب إلى العربية وماذا كانت مكافأته؟

بطبيعة الحال فإنه لا يمكن القول أن ابن المقفع أصبح في مصاف الملوك بعد ترجمته للكتاب، فقد كان كاتبا لدى أحد أمراء بني العباس هو "عيسى بن علي" عم المنصور  وشقيق "عبدالله بن علي" الذي كان واحدا من أهم قادة بني العباس في حربهم على الدولة الأموية ، وكان من أكثر الأمراء دموية، حيث قيل انه قتل في يوم واحد أكثر من خمسين الف شخص، اثناء معركته للاستيلاء على دار الملك في دمشق، وبعد أن مات ابو العباس السفاح ادعى عبد الله بن علي أنه ولي العهد وبايعه أمراء الشام، بينما بويع المنصور في العراق، وهكذا بدات معركة  بين اميري المؤمنين انتهت بانتصار أبو جعفر المنصور، وكنهاية للفلم كان أبو جعفر بعد نهاية كل معركة يعطي للأمير المهزوم عهد أمان، وهي طريقة كانت متبعة بين ابي جعفر المنصور وخصومه من الأمراء العباسيين  حيث يأخذهم في معركة ثم يعطيهم عهدا للأمان لكي يضمن تحييدهم ريثما ينتهي من غيرهم بالقتال، ولكنه كان بعد كل عهد أمان يتخلص من خصمه عندما تسنح له الفرصة بذلك مبررا فعلته باي ذريعة كانت، وهذا ما حصل مع عبدالله بن علي الذي كان يعمل ابن المقفع عند أخيه عيسى،  الذي طلب من ابن المقفع أن يكتب صيغة للعهد، لا يتمكن بعدها المنصور أن يجد أي ثغرة ينفد منها ليقتل أخاه  عبدلله بن علي، وقد فعل ابن المقفع ذلك، حيث اقتضى النص على بند يجعل المنصور كافرا إذا أخل بعهد الأمان الذي أعطاه لعبدالله بن علي  فتعتبر نساؤه طوالق منه وتعتبر بيعته باطلة إذا اصاب عبدالله مكروه، الأمر الذي أثار حنق المنصور الذي قال (اما من أحد يكفينيه؟)  وسمع بذلك سفيان بن معاوية الذي كان واليا على البصرة أو متنفذا فيها ، فدعا ابن المقفع إلى بيته، وهناك روايات عدة  لسبب مجيء ابن المقفع إلى بيت سفيان، بعضها يقول أنه دعي إلى هناك وبعضها يقول إنه ارسل في مهمة إلى هناك من قبل عيسى بن علي.

 وفي بيت سفيان بن معاوية تحديدا كانت النهاية الماساوية لعبد الله ابن المقفع حيث أمر سفيان بإحماء الفرن ثم تم تقطيع أطراف ابن المقفع ورميها في النار وهو حي.

وهكذا انتهى مترجم كليلة ودمنة إلى العربية، زار الجحيم قبل يوم الحساب، ولم يحصل على أي تكريم، وبموته عن عمر يناهز 35 عاما يمكن القول أن الثقافة والعلوم والأدب العربي فقدت كما هائلا مما كان يمكن أن يقوم به ابن المقفع لو قيض له ان يعيش بقية حياته، وهو الذي ترجم وألف مجموعة من الكتب تعتبر كبيرة قياسا للفترة القصيرة التي عاشها، ومن الملفت للنظر أن جميع الكتب التي ترجمها ابن المقفع عن الفارسية واليونانية والهندية و غيرها، لم يبق منها سوى النسخة التي ترجمها ابن المقفع، حيث ضاعت اصولها في اللغات الأخرى.