"العاقل و المجانين"

تأليف: 

"الحمقى وحدهم هم من يفكرون أن الأذكياء يحكمون العالم " كم كان سليمان الأهتر يكرر هذه الجملة كلما تطرّق أحدهم إلى حالة العته التي أصابته إثر مرض ٍ طارئ ٍعندما كان صغيرا ً ..  حيث اكتسب بعدها بضعة حركات ٍ لا إرادية ً ,  و لسانا ً لاذعـاً طليقا كأرنب محرر من قفص . و بقي يحظى باحترام أهل القرية لقيامه بالكثير من الأمور التي لا يقوم بها غيره . من أين أتى سليمان بهذه الجملة الغريبة ، لم يعرف أهل القرية هذا السر أبدا و تبادلوا بين بعض نظرة أسى عميق وهم يهيلون التراب على جثمان أهتر قريتهم  الذي دفن سر جملته معه في ليلة ليلاء حضر مراسمها  جموع غفيرة من الأهالي الذين لم تهن عزيمتهم بعد عن المشاركة في الأفراح و الأتراح. عاش سليمان مقتاتا ً على ما يهبه إياه الأهالي من فتات طعامهم ، لكن البسمة ما كانت تفارق شفتيه المزرقتين و أسنانه المجبولة  تبغا ً و سواداً. لسليمان ذراع تكاد إن شاء تشق جبلا ً في نهار ، و لم يكن يتردد في قبول أعتى المهام بغية الحصول على تبغه و خبزه . هل كان أهل القرية يستغلون  قوة شكيمة هذا الإنسان ؟ ، لم يكن هذا بالأمر المهم لدى سليمان . فهو أيضا ً ينال ما يريد .. ثياب قديمة ، وجباته بمواعيدها ، و نفحات مالية بين الحين و الآخر تكفيه و تكاد تزيد . و ماذا سيفعل سليمان إن زاد معه المال أو نقص . فهو لا يهتم لشيء طالما يستطيع النوم قرير العين و يبدأ صباحه كل يوم مبتسما ً . "الحمقى وحدهم هم من يفكرون أن الأذكياء يحكمون العالم " قالها سليمان لمجموعة من الأولاد كانوا يحاولون تقليد حركات يديه العفويتين  بينما كنت أجلس جانبه و كلانا يحمل سيجارة يتلذذ بتنشقها بعد أن ساعدني بقطع بعض الحطب و ترتيبه ، كنت  معتادا ً على هذا الرد و لا أدري ما سبب دخولي لأول مرة في نقاش معه لهذا السبب . قلت له : إذا ً فالأذكياء يعلمون أن الحمقى هم من يحكمون العالم ؟؟ توقعت أن يكون لكلامي صبغة مبهمة لديه  لكنه أدار وجهه لي و همهم من شفتيه بضعة كلمات غير مفهومة أحسبها شتائمَ ثم قال بصوت واضح : ليس كل الحمقى !!  تخيل لو كان كل الحمقى يحكمون العالم .. أنا فقط أحكم العالم .. و من هم بمستوى سليمان فقط . أولا تعلم أن هنالك درجات للحماقة ، أنت مثلا ً أحمق حين تظن أن مجرد الدخول بنقاش معي حماقة !! و تعلم أن الأولين قالوا: خذ الحكمة من أفواه المجانين؟؟! كان متقدا ً لدرجة أذهلتني ..  فلم أكن أتوقع منه ردا ً فيه كثير من المحاكمة العقلية و الارتباط  وشعرت فعلا ً بالحماقة من سرعة استخفافي بحكمة حياة هذا الرجل.. سألته باهتمام أكبر : وكيف تحكم العالم يا سليمان؟ قال : "هذا الأمر كبير و لا تكفيه سيكارة واحدة " ، و هو يمد يده دون ممانعة مني إلى عبوة سجائري فيخطفها و يضعها تحت قبعته.   ممممم عاد إلى الهمهمة ثم قال : "مَن مِن ملوك الأرض يحصلون على سجائرهم بالطريقة التي يحصل عليها سليمان؟؟ ماذا ينقصني ؟ لدي المأوى و المأكل و الملبوس .. لم أنم عريانا ً و لا جائعا ً منذ ولدت ". وعندما بادرت للحديث قام بسرعة و وضع يده على فمي و قال : "اخرس اخرس .. لن تضيف شيئا ً لما قلت .. لدي عمل أقوم به .."  و ذهب مسرعا ً إلى مهمة أخرى من مهامه التي يقوم بها بتسلسل غريب دون أن ينسى وعدا ً قطعه لأحد.. جلست أفكر فيما قاله هذا العاقل المجنون. لم يجرؤ أحد في يوم أن يوقفني عن الكلام بهذه الطريقة ، ولا أذكر أحدا ً يستطيع أن ينام تحت أول شجرة يراها في طريقه حالما داعبت جفناه أصابع الوسن . سليمان يعرف كل تفاصيل القرية ، يعرفني و يتذكر عني تفاصيل لا أجرؤ على استحضارها ، يهنئني أولا ً بأول بمواعيد ولادة أبنائي و كم أنقذني من مواقف محرجة بتذكيره إياي بالمناسبات الهامة كذكرى زواجي و عيد ميلاد حماتي ... تراه كان سعيدا ً أكثر مني ؟ أكاد لا أشك بهذا . أوقفته ذات  مساء و كان عندي ثلة من رفاقي يحتسون "العرق " في ليلة كانونية باردة قلت له تعال يا سليمان و اشرب معنا  حليب السباع مازحا  ً.. فجاوبني بصوت عال ٍ :أنتم تشربون كي تصبحوا مثلي ، فلماذا أشرب أنا ؟ وأذكر أن القهقهة علت حتى نهاية سهرتنا من جوابه هذا و تكراره مرارا. حتى أن أهل القرية بقيوا يتذكرون هذا الرد على لسان عبيطهم سنين طويلة بعد وفاته . سمعت ذات يوم أن أحدا ً صادفه جثة هامدة تحت شجرة السنديان العتيقة ، و يقسم من شاهده  أنه كان مبتسما ً وآمنا ً. تبيّن أن نزلة برد حادة عصفت برئتيه  حين كان يحفر لنفسه قبرا ً في أعلى نقطة من القرية  . و فيه دفنه أهلها ليبقى مطلا ً و مسيطرا ً على كل ما يجري في القرية طالما بقي قبره هناك.. طرطوس 10112012