الزمن والاختراع الذي غير العالم

ترجمة: 

(مجلة بلانيتا العدد 10 / 2012)

غالباً ما يبدأ صباح كل منا برنين ساعة المنبه، ويذكرنا مؤقت الفرن بأن الوجبة أصبحت جاهزة، وتدق أجراس الساعات في معظم العواصم معلنة عن بدء ساعة جديدة. العاشقين فقط لا ينظرون إلى عقارب ساعاتهم، حينما يكونون معاً، ويلاحقون حركاتها بفارغ الصبر عندما يكونوا متفارقين  أملاً بحث خطاها للاقتراب من الموعد.

يتميز الإنسان بسعيه الدؤوب لقياس كل ما تقع عليه عينه من: حجوم وأطوال، وحرارة، و...والزمن أيضاً لم يفلت من أسر هذه الغريزة، وليس عجباً أن تكون الشمس من لقن الإنسان بأول طريقة لقياس الوقت. حيث لاحظ الناس منذ غابر الأزمان أن طول خيال الأشياء يتغير بمرور النهار، فغدت هذه الظاهرة مبدأ عمل الساعات الشمسية.

     

الساعة الشمسية

يعود ذكر هذه الساعات في التاريخ الصيني إلى العام 1100 ق.م.، وفي مصر إلى 1200- 1300 ق.م. كما ظهرت ساعات يد شمسية. برز في القرون الوسطى علم قائم بذاته، خاص بالوقت- غنومونيكا. بيد أن هذه الساعة لم تعط قياساً لفترة قصيرة من الزمن، في حين كانت هناك حاجة ماسة لهذا. فابتدعت طريقة التمائم الشفوية، حيث توارث الأبناء عن الآباء، كلمات سرية، كان ينبغي تكرارها مرات معدودة، للوصول إلى الزمن المنشود، فإن كان الوقت المطلوب فترته طويلة، اضطر القارئون إلى حفظ ملاحم شعرية، أو قراءة ترانيم صلواتية لعشرات المرات. ثم ظهرت أول أجهزة لقياس الفترات القصيرة، وعلى اعتبار أن طلابها  في الدرجة الأولى، هم الطباخون والحدادون والصيدليون، كانت وسائطها الأولية: النار والماء.  تعد الصين القديمة موطن الساعة النارية، إذ لاحظ أهل الصين- اصحاب الألعاب النارية- أن بعض الخلائط تشتعل بصورة مستوية جداً، فكانوا يضغطون مزيج العطريات والنشارة في لولب، أو عصا عليها تدريجات، ويحددون الزمن بمكان وصول الاحتراق في اللولب أو إلى أية تدريجة على العصا. كانت بعض هذه الساعات تحترق (دون نار) في الأحرام لعدة شهور. رأت هذه الطريقة مولدها الثاني في العصور الوسطى بأوروبا- من خلال الشمعة ذات التدريجات – التي انتشرت في القصور والأديرة في القرن الثامن عشر.

  

الساعة النارية

إن سقوط قطرات الماء بانتظام، دفعت الناس نحو فكرة استخدامه لحساب الوقت. ولعل الساعات المائية هي الأكثر شهرة بين الأجهزة القديمة. لقد تغيرت تصاميم هذه الساعات من قرن لآخر وانتشرت وسط الصين وأوروبا، حيث زينت الساعات المائية المرصعة بالأحجار الكريمة البيوت، وصالات المجالس الرومانية، وانتصبت الكبيرة منها في الساحات والأسواق. مع شيوع هذه الساعات بالذات، راحت تظهر أولى المعايير الزمنية.

 

الساعة المائية

قسم المصريون القدماء اليوم إلى /12/ ساعة نهارية و/12/ ساعة ليلية، غير أن طول الساعة كان يختلف من فصل لآخر، وكانت هذه المشكلة لدى جميع الشعوب القديمة.

من الصعوبة تحديد صاحب أول ساعة أبراج ميكانيكية. لكن جرت العادة على منح هذا الشرف إلى الأب سيلفيستر الثاني، فهو أول من وصف وصمم، ما يشبه الساعة التي نعرفها، في أوروبا. بيد أن الأقرب للواقع أنه حدّث وطور الآلية العربية للساعة، التي أتوا بها في وقتها من الصين. تعالوا ننظر سبب تأخر ظهور الساعة في التاريخ:

 أولاً- ضرورة وجود منبع للطاقة لتحريك العقارب؛ ثانياً- ضرورة وجود آلية لنقل الحركة وتوجيه الطاقة من المصدر إلى العقارب؛ ثالثاُ- آلية لضبط الحركة وتنظيمها؛ رابعاً- آلية التشغيل، التي تحرر المسنن لنقل الحركة إلى العقرب.

في العام 1288، تم في لندن في دير "ويست مينستر" بناء ساعة في برج الدير مع جرس، وفي العام 1292 حظي حرم "كينتربيري" بساعته البرجية، ثم في العام 1300 ظهرت في فلورنسا، وهي ذاتها التي أتى على ذكرها دانتي في "الملهاة الإلهية"، وفي العام 1314 انتصبت في "كان" الفرنسية. وقد كانت الساعات الأولى دون قرص ذي تدريجات، لكنها امتلكت أجراس تنذر بـأوقات الصلاة، ومجسمات لملائكة وقديسين تجسد موقفاً من الكتاب المقدس، ما أدى لتعزيز عظمة الكنيسة، وبذات الوقت، إشهار هذا الجهاز، الأمر الذي جعل الأحرام والكنائس تتسابق لاقتناء هذه الأعجوبة الميكانيكية. إن معرفة الأوقات بالضبط، لم تقل أهمية لدى طبقة النبلاء في أوروبا. ففي العام 1355، سمح مفوض الملك في "إيرسيور لا ليس" لأهالي المدينة ببناء ساعة برجية، لا تدق لأوقات الصلاة، بل لأوقات إبرام الصفقات، ولبداية ونهاية العمل في ورشات ضرب النقود. كما إن تعقيدات تصميم هذا الجهاز بات تحدياً أمام الحرفيين المهرة، وظل على مدى ثلاثة قرون، أكثرها إشكالية، من بين تلك التي ابتدعها الإنسان. فانبرى الحرفيون لتصميم ساعات أكثر دقة وابتكار، وحداثة. واهتم الصائغون وحرفيو المجوهرات أيما اهتمام بهذا الجهاز، وأخذت الساعات تصغر.

    

ساعة برج من الداخل والخارج 

أصبحت ساعة اليد، كما نعرفها اليوم، في القرن الخامس عشر فقط، ويعود فضل كبير في هذا إلى عبقرية ليوناردو دافنتشي. حيث سمح تطور التعدين عندئذ بتصنيع نوابض عالية الجودة، لكن أول مجسمات وعلب موسيقية تعمل بالنابض، كانت مجرد ألعاب بأيادي النبلاء دفعاً للسأم وللترويح عن أنفسهم. دافنتشي كان أول من اقترح استخدام النابض في الشؤون العسكرية، واخترع القفل الدولابي. في العام 1510، استطاع الحرفي من "نيورنبرغ" بيوتر غينلين استخدام النابض  كمحرك للساعات، وجعلها أصغر ما يمكن – جيبية، لكنه كان ينقصها الدقة، وربط النابض لم يكف حتى لربع النهار. تقبل الناس هذا الاختراع كتسلية رائعة ليس إلا. غير أن تعقيد آليتها ومظهرها غير الاعتيادي جعلا منها على وجه السرعة، أداة دارجة. إن العالم لم يعرف مجالاً تقنياً آخر، بذل فيه كم هائل من الإبداع والابتكار والمعرفة والطرافة، كما في صناعة الساعات. لقد كانت الساعة أول آلية ذاتية تجد لها استخدامات تطبيقية، ويمكننا القول: إن ظهور الآلات والأجهزة والرجل الآلي، وحتى الحاسوب، مدانة بالفضل في ظهورها للساعة. فهل كان العلماء يستطيعون توقيت التفاعلات الكيميائية دون الساعة، أو رصد التجارب، أو عد نبض القلب لدى المريض دونها ؟!

                 

ساعة يد تعود لبداية القرن العشرين

في نهاية القرن الثامن عشر صمم - أبرهام لوي بيرغه- ساعة الجرس مع تقويم، والأهم، مع آلية تنبيه بالوقت المطلوب. وهكذت رست آلية الساعة في صميم تصاميم الغالبية العظمى من الاختراعات فيما بعد، وما زالت، حتى لا يكاد يخلو تصميم منها.

إن استطعت قياس الوقت بدقة، تمكنت من برمجته، وأكثر الناس تقديراً لقياس لوقت، هم العسكر: فنقطة الصفر لدى تنفيذ العمليات، والقصف المدفعي وأبعاد الهجوم، جميعها مرتبط بالوقت وتقديراته. فمثلاً: في حرب إنكلترة ضد الدول البورية (دولة جنوب أفريقيا ودولة "جمهورية البرتقال") بين العامين: 1899- 1902، كان توفر الساعة لدى الإنجليز سبباً لاستغلال تفوقهم العددي، ومن ثم الانتصار في هذه الحرب. حصل ذلك، من خلال ضبط أداء الفرق والوحدات العسكرية الإنجليزية، وتوافق التحركات وانسجامها زمنياً فيما بينها، ما أربك العدو، وجعله قاصراً لجهة الفلاح في التصدي للقوات المعادية، وعاجزاً عن نقلها إلى المكان الصحيح في الوقت المناسب. وباتت عبارة: "لنضبط الساعات" عبارة أكثر من دارجة، إذ لا يتم احتفال أوفعالية بتجاوزها.

 

 

ساعة المنبه

ظهرت أوا ساعة يد في العام 1809، حين قام صانع المجوهرات الباريسي- نيتون- بتصنيع ساعة طلبتها زوجة نابليون- جوزيفينا- عبارة عن سوار مزدوج من الذهب، مرصع بالأحجار الكريمة مع ساعة وتقويم، لتقدمها هدية في زفاف أميرة لوكسمبورغ– أفغوستا أميلي. واستغرق الأمر خمسين سنة، لشيوع هذا الأنموذج، وفترة أطول للكف عن اعتباره نسائياً حصراً. وفي العام 1880، تفاوضت آمرية الأسطول البحري الألماني مع حرفيي الساعات السويسريين، لتصنيع ساعات يدوية لضباط البحرية. وجاءت الحرب الأتغلو- بورية- الآنف ذكرها أعلاه، لتغير وجهة النظر تلك، حينما أثبتت الساعة فائدتها العظمى، وأفضلية حملها في معصم اليد، إذ الوقت اللازم لإخراجها من الجيب والنظر فيها، كاف للتصويب وإطلاق النار. فجاءت الحرب العالمية الأولى لتكون المنعطف التاريخي في هذا الأمر، حيث انتشرت ساعات اليد أيما انتشار في جميع بلدان العالم، وكان الصناعيون السويسريون أول من انتبه إلى ذلك، لتتحول عبارة: "ساعة سويسرية" إلى اسم وعنوان.

 

ساعة يد تعود لنهاية القرن التاسع عشر

كانت الكواكب ورحلة دورانها، خاصة مدة دوران الأرض حول محورها، مقياساً للوقت في القديم من الزمان، إذ كانت الثانية والدقيقة فالساعة، جزءاً من هذه المدة. أما اليوم،  فهناك الوقت العالمي النووي، الذي تم اعتماده في العام 1976 من قبل المكتب الدولي للمقاييس والأوزان، والمستند إلى مقياس السيزيوم: فالثانية هي الفاصل بين /177 631 192 9/ مرات العبور ما بين مستويات ذرة السيزيوم-133. والغلط في هذا الوقت يساوي /0,3/ نانو ثانية في اليوم.  وليس من المستبعد أن يصبح مقياس الزمن مع مرور الأيام، الإشعاع الصادر عن جهاز النبض الميللي ثانوي، الذي ابتكر في العام 1982.