الشحاطة

تأليف: 

وصل القطار إلى المدينة في وقت متأخر، كنت أعرف أن المحال ستكون قد اغلقت ابوابها عندما اصل، ولم يكن ذلك ليقلقني لو أنني لم انس الشحاطة، اكتشفت ذلك في القطار، ليس من عادتي ان اسمح لهذا الأمر بالحصول، فهناك عدة أشياء أعتبرها من مقدسات حقيبتي، فرشاة ومعجون الأسنان، واحد، عدة الحلاقة، اثنان، بدلان داخليان، ثلاثة، قميص وبنطال احتياطيان، اربعة، وأخيرا الشحاطة.

الأنكى من ذلك كله، أنني في كل مرة أجمع في الحقيبة الأشياء التي استخدمها عادة، أما الشحاطة تحديدا فقد كان لها معاملة خاصة، لأنه كان لدي شحاطة لا استخدمها إلا في السفر، وكنت ابقيها ملفوفة في الكيس داخل حقيبتي دائما، لم أكن أخرجها من هناك، وكنت اسميها شحاطة السفر، كيف نسيتها هذه المرة لا أدري، هذا أمر لم يحصل سابقا،  ولكي لا يتم فهمي بطريقة خاطئة فإن الشحاطة بحد ذاتها لم تكن تهمني، أنا فقط لا استطيع التنقل حافي القدمين في الفنادق والقطارات والأماكن الغريبة، خشية التقاط جرثومة ما لست بحاجة إليها، ولأنني نسيت الشحاطة فسأضطر للتنقل بالحذاء داخل الغرفة في الفندق.

في الطريق إلى الفندق كنت أنقل نظري بين واجهات المحال المنتشرة على جانبي الشارع، لعلني اجد محلا شاذا لا زال يعمل حتى هذه الساعة، ورغم انني كنت فاقدا للأمل بخصوص هذا، إلا أنني عثرت على ضالتي، فقد شاهدا محلا متخصصا ببيع أحذية تحمل ماركة أنكليزية لا يزال يعمل، دخلت إليه آملا أن أجد فيه شحاطات أيضا، وبالفعل وجدت ما كنت ابحث عنه، وعندما كانت البائعة تضع العلبة الكرتونية التي فيها شحاطتي الجديدة داخل الكيس، شاهدة جواربا فطلبت منها أن تضع في الكيس ايضا زوجين من الجوارب ( تحسبا)، وكعادة الغريب في بداية وصوله إلى المكان فإنه لا يعد النقود، أعطيتها المبلغ الذي طلبته، دون أن يرف لي جفن، ولأنني لم أكن قد اعتدت بعد على عملة ذلك البلد فإنني لم اشعر بالصدمة إلا في الفندق وأنا أخرج تلك الشحاطة من علبتها الكرتونية، فقد اكتشفت أنني دفعت ثمنا باهظا للشحاطة بلغ ما قيمته مئة وعشرين دولارا، لو انني فقدت هذا المبلغ في الشارع لما صدمت كصدمتي به الآن، يا إلهي.. شحاطة بمئة وعشرين دولارا، هذا اشبه بعملية نصب واحتيال، أهي شحاطة ذهبية لكي أدفع ثمنا لها مئة وعشرين دولارا، تفو على هذا الحظ، كان يجب ان أنتبه وأنا أدفع، سأضطر بسبب ذلك أن أخفض نفقاتي.

نمت معكر المزاج تلك الليلة، ولكنني في الصباح استيقظت على زقزقة العصافير فوق أغصان شجرة تطل على نافذة غرفتي في الفندق الذي كان يقع على شاطئ نهر الدنيبر، ما جعلني انسى صدمة الشحاطة، فشربت القهوة وتناولت الفطور وخرجت إلى المدينة.

الحياة التي كانت تدب في أوصال المدينة، موسيقيو ورسامو الشوارع المنتشرين على الأرصفة كانوا يمنحون المدينة جرعة من الفرح حصلت على حصتي منها، منظر زجاجات العطر في واجهة محل العطور جذبني فدخلت إلى هناك، في داخل المحل وأنا أتأمل العطور شاهدة زجاجة عطر من ماركة "شانيل مودموزيل"، إنه عطرها المفضل، سعر الزجاجة حوالي مئة دولار، اللعنة على تلك الشحاطة، لو انني لم ابتلى بها لأشتريت زجاجة العطر هذه لحبيبتي الآن، تبا للانكليز وشحاطاتهم وأحذيتهم وكل ما ينتجون، تفو، كم كانت ستفرح عندما اقدم لها زجاجة العطر حين اعود، لابد أنها ستنتظر مني هدية ما حين تستقبلني في محطة القطار عند عودتي، ساشتري لها بالتأكيد هدية رمزية، ولكن هل ستفرح بها كما كانت ستفرح لو انني قدمت لها زجاجة العطر هذه؟

-         ما الذي يثير اهتمامكم بالتحديد؟

أخرجني سؤال الفتاة التي تعمل في المحل من تأملاتي فأجبتها بأن شيئا لا يثير اهتمامي وخرجت معكر المزاج.

في الشارع عاد مزاجي يتعدل من جديد بسبب صخب المدينة، ثم شربت القهوة في مقهى على الرصيف وكان يجلس قبالتي رجل وامرأة افريقيان، كان زنجية جميلة جدا، يبدو ان الرجل دبلوماسي، سيارته التي تقف في الخارج عليها نمرة دبلوماسية، كانت المرأة خارقة الجمال لدرجة الدهشة، دهشة أخرجتني كليا من تأثير مأساتي مع الشحاطة.

مزاجي تعكر من جديد عندما وقعت عيناي على الشحاطة وأنا أخرجها من تحت السرير في الفندق، عليك اللعنة وعلى التاج البريطاني كله معك يا قطعة الجلد الأصلي السافلة، تفو، جلد اصلي، هكذا كتب عليها، ايها السفلة، ايعقل أن تسلخوا جلد كائن حي لصناعة شحاطة، استلقيت قليلا، ثم نزلت إلى البهو في الأسفل، كان هناك الكثير من الجميلات، لعل رؤيتهن  تعدل مزاجي، غير أن شيئا من ذلك لم يحدث، فمعظمهن عاهرات ولهن جمال الدمى الميت، ومع احترامي للجميع إلا ان العاهرات لم يكن يلفتن نظري ابدا، ولذلك لم تطل جلستي في البهو، خرجت من هناك وأخذت أتجول في المدينة.

بعد ساعتين من التجول وبينما كنت افكر إلى اين اذهب، تسربت إلى انفي رائحة شهية تنبعث من مطعم في المكان، فعرفت إلى اين على الذهاب، السرعة التي اثارت الرائحة فيها شهيتي كانت دليلا على انني جائع، فدخلت إلى هناك، وبعد أن غسلت يديّ وجلست على الطاولة تناولت قائمة الطعام وأخذت اقرأ اسماء المأكولات  وسرعان ما قمت باختيار الوجبة التي سأتناولها، فأشرت للنادلة بيدي فحضرت واستلت مفكرتها وقلهما لتكتب ما أريد، وسالت:

-         ماذا تريديون؟

فقلت لها ما الذي اريده، ولكن قبل أن تنصرف تذكرت انني لم اقرأ الأسعار عندما قرأت أسماء الأكلات فانتابني رعب خفي وطلبت منها:

-         اشطبي كل ما كتبته من فضلك، وعودي بعد دقائق، أريد أن اتأكد مما اريده.

انصرفت الفتاة وفتحت أنا قائمة الطعام من جديد، فتنفست الصعداء و قلت لنفسي( خيرا فعلت لقد لحقت نفسك يا ولد)، لم تكن الأسعار باهظة إلى تلك الدرجة، ولكنها كانت فوق طاقتي، نهضت وخرجت دون أن انظر إلى الخلف، كنت اتحاشى نظرة النادلة، رغم أنها ربما لم تكن تراني في تلك اللحظة، اللعنة على تلك الشحاطة، اللعنة على بريطانيا العظمىن ملكة وحكومة وشعبا ومستعمرات، تفو، لولا تلك الشحاطة لتناولت طعامي بكل ثقة بالنفس، وتركت بخشيشا معتبرا للنادلة بدلا من الهرب من نظراتها.

توالت اللعنات على تلك الشحاطة، فقد كنت مع كل حركة اقوم بها  اشعر بالفراغ الذي تركه مبلغ المئة وعشرين دولارا، باختصار، يمكن القول أن الشحاطة افسدت علي رحلتي.

وفي اليوم الثالث الذي كان علي ان أغادر في مسائه تلك المدينة، وبينما كنت أجمع أغراضي في الفندق، توالت علي الصدمات تباعا، الصدمة الأولى كانت وأنا أبحث في الأدراج خشية ان أنسى شيئا، فعثرت في أحد الأدراج على شحاطة من الفندق،  إذا فقد كنت بغنى عن تلك الشحاطة الانكليزية ؟ ما كان علي إلا البحث قليلا في ادراج الخزائن الموجودة في الغرفة، ولكن هذه الصدمة لا تقارن مع الصدمة الأكبر التي تلتها، فقد وقعت في يدي قسيمة الصندوق من المحل الذي اشتريت منه الشحاطة، وكان في الكيس الذي فيه زوج من زوجي الجوارب اللذين اشتريتهما، حيث انني اكتشفت أن سعر الشحاطة لم يتعد الخمسة عشر دولارا، لقد كانت الضربة القاضية في ثمن الجوارب، فقد تعدى ما يعادل المئة دولار، ايعقل أن يساوي زوج من الجوارب أكثر من خمسين دولارا؟ تفو، اللعنة على الانكليز السفلة، انهم حقا قوم لا يؤمن جانبهم.

في مقهى محطة القطار حيث كنت أشرب القهوة مع حبيبتي التي استقبلتني هناك، كنت اشعر بالارتياح للحميمية التي ارتمت بها على عنقي عندما ترجلت من العربة، وكنت أضع رجلا على رجل عندما صرخت حبيبتي التي تفهم في الماركات المختلفة وقد جحظت عيناها وهي تحدق برجلي (أوه.. ايكّو)، مما جلعني اقفز في مكاني وقد اعتراني شعور بالخوف بسبب المفاجأة، وكوني لم افهم ما حدث، غير أنني  سرعان ما فهمت عندما رمت حبيبتي أمامي على الطاولة الدمية الخشبية التي قدمتها هدية لها، والتي تصور امرأة في الزي الشعبي لتلك المدينة التي كنت فيها وقالت:

-         يا لك من رجل عديم الحياء، أتشترى لنفسك جوارب " ايكو" الانكليزية وتخدعني بدمية خشبية رخيصة، الا تخجل من نفسك؟

أخجل، أخجل، وأتعرق خجلا، لكن ليس بسبب الهدية الرخيصة ، وإنما لأن بريطانيا العظمى تخدعني في كل الأمور، حتى في الجوارب.

قلت ذلك، ولكن ليس لها، وإنما لنفسي.