لن نبلغ سن الرشد

تأليف: 

لكي يتعلم الطعام، لا يترك الطفل قذارة على الأرض دون ان يضعها في فمه، يبلعها حينا ويبصقها حينا، ولكنه في نهاية المطاف يبلغ سن الرشد وقد تعلم ما يؤكل وما لا يؤكل.

وهكذا هي البشرية، بدأت بالكهوف التي هيأتها لها الطبيعة، ثم تعلمت البناء، لأن البيت كهف اكثر تطورا من ذلك الذي منحتهم إياه الطبيعة بلا ابواب ولا شبابيك، ثم تطور البناء حتى وصل الإنسان إلى ناطحات السحاب، ويفكر بالبناء في الفضاء، وهو حتما سيصل إلى هذا.

المجتمعات البشرية بدأت من الصيد الغريزي كباقي الحيوانات، وحين وصلت إلى قناعة بأن هذا الشكل لم يعد صالحا لاستمرار الحياة قررت الانتقال إلى تربية الحيوانات بدلا من الركض وارءها كالذئاب والكلاب والقردة في القفار والجبال والغابات، وهكذا ولد مجتمع الرعي، ثم اكتشفت هذه المجتمعات الزراعة وتابعت تطورها إلى أن وصلت إلى ما هي عليه الآن، وهذا أمر طبيعي فالأشكال الاجتماعية لها عمر كباقي الأشياء، تولد فتية ثم تكبر وتهرم وعليها في نهاية المطاف أن تقضي نحبها، ويحدث ذلك في معظم الأحيان عبر ثورات دموية في معظمها، لأن الأشكال المجتمعية الهرمة ترفض الانصياع لمنطق التطور، مما يجبر القوى الفاعلة على اقتلاعها عنوة فيما تعارفنا عليه بالثورة.

وهكذا فإن كل ثورة في تاريخ الشعوب هي خطوة إلى الأمام، ترمي بما أصيب بالبلاء إلى صفحات التاريخ، وتفعّل الآليات الجديدة التي تحرك المجتمع إلى الأمام.

إلا العرب مع الأسف، لا تعلمهم التجارب، فكلما وصلوا إلى طريق مسدود يقومون بثورة مثلهم مثل بقية الشعوب، ولكنهم نوعا عن الشعوب الأخرى يعيدون التجربة من عهد الجاهلية، فيعودون لتناول كل ما هو مرمي على الأرض، كذلك الطفل تماما، ولا يبلغون ابدا سن الرشد، لأن العودة إلى الجاهلية تفرض عليهم المرور مرة ثانية بنفس الطريق المسدودة تلك، التي قاموا بالثورة بسببها، فينتفضون من جديد ويعودون للجاهلية مرة اخرى ويدورون في الحلقة  المفرغة مجددا، ولا أدري إن كانوا سيفهمون يوما، أن ما أنتجوه منذ الجاهلية إلى اليوم قد عاش دورته الطبيعية التي انتهت واللهب الذي خبا في آخر جمراته آنذاك لن يبعث في جسد الرماد، مهما نفخو له في الكور.