عبق الزمان

ترجمة: 

القول إن تاريخ العطور ابتدأ منذ زمن غابر يغبن حقها ، إذ وجد هذا الفن العظيم مذ ظهر مفهوم الجمال ذاته. فصورة الإنسان لا تعني ملامحه الخارجية وحسب، بل نمط تصرفاته وملابسه، ورائحته الفريدة بالطبع.

يرتبط تاريخ العطورات دون انفصال بتاريخ الجنس البشري. فالشم هو حاسة معظم ما تحتفظ به في داخلها من خواص طبيعياً وحيوانياً. إن المعلوامت التي تنقلها حاسة الشم إلى الدماغ  لا تتعرض تقريباً لتقييم جدي منه، إذ إننا نخضع للروائح دونما إدراك منا.

لقد خبر الفراعنة في عهدهم الروائح جيداً ، حيث كانت الحسناوات وقتئذ يدهنّ جلدهن البرونزي بالزيوت والدهون، المحتوية على مواد عطرية. وكان الفراعنة يضعون الخلائط المعطرة في توابيت الملوك وقبور الذوات. حيث كانوا يعتقدون أنه حتى لو تفتت المومياء وتقطعت أوصالها، فإن أجزاءها ستجد بعضها بعضاً في العالم الآخر من خلال الرائحة.

لقد واكبت الروائح الإنسان القديم أينما وجد. لجهة طرد المرض عن الجسم، كان  الكهنة يلوحون بغصن دراق مزهر فوق المريض. أما هيرودوت العظيم فقد قال: كانوا ينفثون دخان العرعر في البيوت الجديدة، لوقايتها من ضربات الصواعق والحرائق وغيرها من النوازل.

وصلت العطور الزيتية عبر رحاب البحر المتوسط الدافئ إلى بلاد الإغريق، ثم روما. وكانت الحضارات القديمة قد عرفت قيمة العطور الاجتماعية - كلما كانت رائحتك أفضل، أحبك الناس أكثر - إلى جانب خواصها العلاجية.

قل من يضاهي شعوب الشرق، كالصينيين والهنود والفرس بقدرتهم على اختيار أعشاب التوابل، وتحضير روائح رائعة منها. في بداية الألفية الأولى قبل الميلاد، ابتكرت الحضارة العربية مكعب التقطير، الذي يسمح بتقطير الكحول المستخدم لتثبيت الرائحة.  ومع سقوط امبراطورية روما وانتشار المسيحية، بات فن العطورات في أوروبا في طي النسيان، واقتصر أريج الروائح الطيبة على الأحرام والأديرة. في القرن الثامن عشر فقط، صار تجار البندقية يأتون بالأعشاب الغريبة والعطرية  والبهارات والأزهار إلى أوطناهم، فانبعث الاهتمام بالعطورات. وكانت أوروبا – العصور الوسطى من أهدى للعالم أول "منعش هواء"، على شكل كرة حديدية بها ثقوب وتحتوي على معطّر، وكان الاعتقاد السائد وقتئذٍ ، أن الروائح المنبعثة من هاتيك الكرات تنعش المكان وتطرد الأمراض، حتى الأوبئة الفظيعة كالطاعون. إن هذه حقيقة تؤيدها حوادث تاريخية، إذ تروي قصص التاريخ، أنه أثناء تفشي الطاعون في مدينة مرسيليا عمد أربعة من الشبان السارقين والحاذقين إلى تشريب ملابسهم برائحة من تركيب خاص خشية العدوى، لسرقة كل ما على الجثث الملقاة. ويبدو أن هذه الوسيلة قد نجحت، بدليل محافظتهم على صحتهم حتى مثلوا أمام المحكمة، التي طلبوا منها الصفح لقاء الوصفة المدهشة للروائح التي استخدموها.

ثم ظهرت في أوروبا، بفضل رحلات ماركو بولو،  روائح المسك والقرنفل، وراح التجار يحملون القرفة والمريميّة والهال من البلاد العربية، رواد هذه التجارة كانوا الهولنديين.

أما أصل العطور المعاصرة فيُعدّ المزيج العطري المركب على أساس من الكحول مع رائحة "روزمارين" (حصالبان) الواضحة - "ماء ملكة المجر". تم تركيب هذه الرائحة في نهاية القرن الرابع عشر. وقد أرسى هذا العطر بظهوره أساس صناعة العطور الحديثة. حيث يقال: إنه بفضل ذاك "الماء السحري" بقيت ملكة المجر اليزابيت محافظة على فتنتها، وكان لها 72 عاماً عندما طلب يدها ملك بولونيا ذو الخمسة والعشرين عاماً.

لم تكن من النوادر تلك الحالات التي استخدمت فيها صناعة العطور لمآرب شريرة، وليس من أجل الجمال والتطيب. فهاهي والدة ملك فرنسا المرتقب هنري الرابع، تموت جراء ارتداءها قفازات منفوث بها روائح سامة أهداها إليها  أعداء لها. الجدير بالذكر أن القفازات والعطور كانت تصنع في ذلك الوقت من قبل شخص واحد، واستمر هكذا الحال حتى الثورة الفرنسية العظمى، حين تم الفصل بين الحرفتين.

ينفرد العام 1828 بتاريخ مولد صناعة العطورات الحديثة، إذ افتتح في هذا العام الفرنسي- بيير فرانسوا باسكال غيرلين- أول متجر للعطورات. حيث مزج بين الوصفات القديمة ووصفاته الخاصة، وصنع روائح جديدة فريدة. ثم قاسمه الشهرة فرانسوا كوتي- الذي صنع العطر الذائع الصيت "شانيل – 5".

 يصل عدد مركبات العطر الواحد في أيامنا هذه إلى مائتين من الأصول الطبيعية والاصطناعية. أما الأساس في جميع العطور فهي زيوت الأتير، والتي تعني الخفيفة وسريعة التبخر الذي ينجم عنه انتشار الرائحة. كما تحتوي العطورات على الكحول لتثبيت الرائحة.

عند اختيار العطور ينبغي أخذ الحقيقة الدامغة- أن ذات العطر يفوح من أجسام مختلف الناس بروائح مختلفة- بعين الاعتبار، حيث إن جسم الإنسان يتفوح بـحوالي 25 رائحة فريدة، يصعب تمييزها أحياناً، لكنها تؤثر على الرائحة النهائية المنبعثة عن الشخص. عدا ذلك، لا بد من الأخذ بالحسبان أن العطر الجيد يفرز ثلاثة طبقات للرائحة، تندفع أولاً- الرئيسية أو الرائحة العليا التي نشعر بها عند وضع العطور على جلدنا، ثم المتوسطة أو الجوفية – وهي الرائحة الأساسية التي يشتمها الزملاء والمحيطون بنا، وتكون قد تبخرت الرئيسية، ثم تأتي أخيراً طبقة الخلفية، أو الذيل الذي يتركه المتعطر وراءه لساعات، عندما يمر بجانبنا. ومن الأهمية، معرفة وضع العطور صحيحاً. حيث رش قطرات وراء الأذن، وعند رسغ اليد من الأسفل، موضع النبض، أماكن أكثر ما تفوح الرائحة منها. وهناك سر آخر لا بأس من الاطلاع عليه: تبقى الرائحة على الجسم لمدة أطول، عندما يكون الجلد مدهوناً بكريم مغذ ومرطب، كما يفضل عدم تعطير الأقمشة الرقيقة والمجوهرات، وخاصة اللؤلؤ.

مصمم الأزياء البريطاني – كلايف كريستيان – صنع أغلى العطور في العالم-"امبريال ماجستي رقم 1"- يبلغ سعر الزجاجة 215 ألف دولار. الزجاجة من الكريستال الجبلي وغطاؤها مطعم بالذهب والماس، والعطر مصنوع من أندر المكونات وأغلاها، ويتم سنوياً تركيب عشر زجاجت منه فقط. أما أقدم العطورات التي مازالت تباع في السوق فهو عطر "جيكي" من صنع غيرلين في العام 1870 ، ويحمل اسم محبوبته البريطانية التي كان أصدقاؤه يدعونها بجيكي.