مساء شتوي

تأليف: 

آه كم أحب الشتاء و أمسيات الشتاء ... عندما كنا نتغطى بأغطية الحب وإذا ما استيقظنا عدنا جميعاً إلى المدفأة حيث الدفء... كنا نتحلق حولها وكنت أشعرُ حينها بأن من سيخرج منا سيكون خائن ... خائن لهذا الجو المليء بالدفء و الحب... و أجمل ما في هذا الشتاء أن الحكومة كانت تقطع التيار الكهربائي كأنها تعلم أننا سنجتمع فيركض أخي الصغير و يضيء الشموع وتضيء المدفأة بشعلتها البرتقالية جزءاً يسيراً من الغرفة التي لا يمكنك الخروج منها لأي هدف كان فإذا خرجت فكأنك تخرج لتدخل في غرفة من ثلج كتلك التي يقطنها قبائل سيبيريا والاسكيمو...يقرر أخي وزوجته  الجلوس حول الشمع بالقرب من المدفأة وتشوي أمي الكستناء و يوصيها والدي الملتحف بتقليب الكستناء جيداً كي لا تحترق في هذا الجو الساحر بينما تقرأ أختي رسائل الغرام على ضوء الشمعة حتى إذا دنا منها أحد دست الرسائل الملفوفة كورق السجائر في صدرها ، تحذرها أمي من شبان هذه الأيام و يتمنى أخي الصغير أن يبقى التيار الكهربائي مقطوعاً ليستمر هذا السحر و الرومانسية والدفء إلى الأبد و ليخرج الشعب  بعدها في مظاهرات تطالب بانقطاع التيار الكهربائي.....      

في العتمة اللطيفة ومع ذوبان الشموع تظن زوجة أخي أن أحداً لا يراها فتتلمس بأصابعها يد أخي ثم تنطلق أصابعها إلى مناطق تشعل الكهرباء في داخله، هذا الداخل الذي لم  يعرفه أخي الصغير بعد لكنه يجمع ألعابه من جنود و سيارات و حيوانات مختلفة على سجادة من صنع يدوي اشتراها أبي بالتقسيط   ....

يتوقف الجنود على حافة الطاولة ثم تراهم يرتمون على أرض منزلنا واحد تلو الآخر وتهرب الحيوانات وتنطلق السيارات تطارد بعضها البعض في خيال من وحي أخي الصغير الذي لابد  أن له خيال فنان عظيم أجبرني في كثير من الأحيان على اللعب معه مشكلين أطراف صراع وغالباً ما يُسقط  أخي أعداءه فهو لا يحب الهزيمة ....    

ثم أكلنا الكستناء و عادت الكهرباء مع حلول الليل حينها لم يعد هناك من داع ليخرج منا أحد، جلسنا هذه المرة حول التلفاز متأهبين مستعدين لمشاهدة فيلم من أفلام رعاة البقر المفضلة لدى والدي وبما أن يوم الأربعاء من كل أسبوع هو موعد عرض هذه الأفلام فقد كان لنا ما أردنا وعرضت القناة الثانية إحدى قناتين لم نكن نملك سواهما فيلم صراع تحت الشمس فتسمرت عيوننا على الشاشة، ومع تصاعد الأحداث وقبل الوصول إلى الذروة استغربنا مازحين كيف يتصارع غر يغوري بك مع جوزيف كوثن من أجل الفوز بحب جنيفر جونس تحت الشمس الحارقة، وخارج منزلنا يبدأ الثلج بتغطية الأرض... كل خمس دقائق يتفقد أخي الصغير الشارع من النافذة و يوافينا بالأخبار, الثلج يزداد و غداً لن يكون هناك مدرسة و كأن المدرسة سجن لا يريد دخوله....

في كل الأحوال السماء فرحة واللون المائل للحمرة يضرب الأفق و الثلج يزداد وإذا ازداد أكثر فالناس ستخرج إلى الشارع للعب، لأن الثلج هنا ظاهرة فريدة ونادرة على خلاف روسيا مثلاً لكنها ظاهرة قد تؤدي إلى تقطع إرسال القناة....      

لعن أبي الحظ العاثر فلم يهطل الثلج إلا عندما عرضت القناة الثانية هذا الفيلم الخالد فاقترحت الذهاب إلى السطح لحل المشكلة ثم العودة لإكمال الفيلم فحذرني أبي  من خطورة ذلك في العتمة والثلج لكنني صممت  على الذهاب في عملية فدائية وصعدت إلى السطح ونفضت عن الهوائي الثلج المتراكم لكن قدمي زلت عن الحافة وسقطت من الطابق الرابع إلى حضن أمي حيث تابعت من هناك قبلة هوليودية طويلة مع نهاية الفيلم ... حينها فرحنا فأبطال الفيلم تقاتلوا حتى انتصر الخير في النهاية والتقى الحبيبان ونحن هنا مع بعضنا في منزلنا الحبيب الذي رفض أبي التخلي عنه وحافظ عليه رغم كل الحروب التي شنها جنود أخي الصغير ورغم كل الحيوانات التي حاولت اقتحام هذا الجو الفريد....

آن وقت العشاء لكن المدفأة العزيزة أبت إلا أن تلعب دورها فنفضت وأحدثت فرقعات  فالرياح المفاجئة منعت الهواء الساخن من الخروج فارتد منفجراً من ثقوب المدفأة وتسرب المازوت من تحتها، وبحكمة وصبر القائد طلب أبي من أمي و أختي تحضير العشاء وجففنا أنا وأخي المازوت المتسرب وفتحنا النوافذ ليخرج الدخان وعادت المدفأة لعملها الطبيعي  بعدها جلسنا للعشاء متحدين أي شيء يحاول أن يخرب علينا سحر هذا المساء الشتوي.....