قصر القرف (هل تبرر إدانة القبح تصويره )

تأليف: 

زميلة في العمل جاءتني مرة والدموع تنهمر من عينيها مدرارة، فقد تعرضت لمحاولة اغتصاب، لا أدري ما الذي ساق تلك الحادثة إلى ذاكرتي اليوم عندما شاهدت فلم بازوليني الذي سميته قصر القرف، وأظن أنني لن أجد تسمية أفضل لذلك القصر الذي تدور فيه أحداث فيلم بازوليني "سالو أو 120 يوما لسدوم"، ففي ذلك المكان وإذا كانت بك رغبة كبيرة لمعرفة ما صوره بازوليني، يمكن لأعصابك أن تحتمل لتشاهد كل أنواع القرف، ما يخطر لك في بال وما لا يخطر، بازوليني نفسه لم يكتب له أن يشاهد هذا الفلم على الشاشة، حيث عرض الفلم للمرة الأولى بعد مقتله بفترة وجيزة عام 1975، ومن ضمن الاحتمالات المطروحة لسبب مقتل بازوليني الذي لا  يزال غامضا حتى هذا الوقت، هو انه ربما يكون هذا الفلم بالتحديد سبب مقتله، حيث تلقى بازوليني أثناء تحضيره للفلم تهديدات من منظمات فاشية إيطالية جديدة، وأشيع أن الذين شاركوا في قتله، كانوا يصرخون وهم يفعلون ذلك: "أيها الشيوعي القذر".


(الجلادون وزبانيتهم على شرفة القصر)

وعندما نعرف أن الفلم مأخوذ عن رواية الماركيز دي سادي التي تحمل عنوان "120 يوما في سادوم" فإننا لن نستغرب حجم القرف الذي يحتوي عليه مضمون الفلم، وربما يمكن القول أنه لا يجاري الرواية في ذلك، ولكن إذا كان الماركيز دي سادي الذي اشتق من اسمه مصطلح السادية، قد كتب الرواية بحثا في مخيلته عن صور تفسر فلسفته السادية، وهو صاحب فلسفة اللذة المطلقة التي لا يحدها عرف لا أخلاقي ولا ديني ولا قانوني، والذي ربما شعر بمتعة في سلوك أبطاله، فما الذي دفع بازوليني لتبني هذه الرواية سينمائيا؟

تتحدث قصة الفلم عن أربعة صناعيين ايطاليين فاشيين يأمرون باعتقال عدد من الأطفال، وهذا ما يفعله جنود ايطاليا الفاشية، حيث يجمعون لهم الأطفال من المدينة ويسوقونهم إلى مكان يقوم فيه هؤلاء الصناعيين بانتقاء تسع بنات وتسعة صبيان، ثم تحمل شاحنة عسكرية هؤلاء الأطفال إلى قلعة يقوم على حراستها مجموعة من المراهقين ربما مروا في الجحيم الذي ينتظر الأطفال الجدد، ويقوم على خدمتهم أيضا مجموعة من الخدم المراهقين، وفي القصر تعيش أربع عاهرات يقمن بدور الحكواتي، يروين قصصا فيها من الشذوذ ما يرغب الصناعيين الأربعة القيام به مع الأطفال، وهناك تبدأ رحلة من السادية لا يمكن وصفها، وإن كان الفلم في تفاصيله لا يرقى في تصوير السادية إلى مستوى الرواية، التي وبصراحة بعد أن قرأت الجزء الأول منها، فضلت تصفح بقية الأجزاء لتكوين صورة عنها، بدلا من قراءتها كاملة لأنني شعرت أنها ستسبب لي أذى نفسيا، ورغم عدم وصول الفلم إلى مستوى الرواية كما ذكرت إلا أن ما فيه من التفاصيل، يكفي لكي يطلع الإنسان على تركيبة العقل السادي.

(الصناعيون الأربعة)


يقسم بازوليني الفلم إلى أربعة أجزاء، أو دوائر، تيمنا بدوائر الجحيم في الكوميديا الإلهية لدانتي، الدائرة الأولى في الفلم يسميها بازوليني "عند بوابات الجحيم"، أما الدائرة الثانية فيطلق عليها"دائرة الجنون"والدائرة الثالثة " دائرة البراز" أما الدائرة الرابعة والأخيرة فـ"دائرة الدم"، وفي كل دائرة من هذه الدوائر تقوم العاهرات ألأربع "الحكواتيات" برواية قصة حصلت معها أثناء عملها في الدعارة، من قبل شخص سادي، فيقوم هؤلاء الصناعيين الأربعة بتنفيذها وتطويرها كل بحسب ما يمليه عليه خياله المريض، وليس بي رغبة هنا للعودة إلى التفاصيل والحديث عنها، ولكن أكتفي بالقول أنه في دائرة الدم، أي في الجزء الأخير من الفلم تنتهي الأحداث باغتصاب هؤلاء الأطفال ضمن طقس دموي، حيث يقوم هؤلاء الصناعيين باغتصاب الأطفال أثناء قتلهم بطرق يتفننون فيها في القتل وفي الاغتصاب.

(جلسة الاستمتاع بمعاناة إحدى الضحايا)

وأعود هنا للسؤال، إذا كان المركيز دي سادي صاحب فلسفة تتفق مع ما سجله في رواياته من تخيلات مريضة، فما الذي دفع بازوليني لفعل ذلك؟ لقد قام بازوليني باستبدال الأرستقراطيين الفرنسيين ألأربعة في رواية دي ساد بصناعيين فاشيين، وربما أراد من خلال ذلك الإسقاط أن يبين أن الفاشية والفكر الفاشي في داخله فكر سادي قذر، كما أنه باستعارته منطق الدوائر من كوميديا دانتي الإلهية، ربما سجل موقفا من فلسفة الماركيز دي سادي، حيث اعتبر أن الأحداث هي من دوائر الجحيم، وليس مثل الماركيز الذي طرح فلسفته عبر أحداث الرواية، وربما أراد بازوليني أن يقول أكثر من ذلك، هذا ليس مهما هنا، فأنا بتفسيري هذا أردت العثور على المبرر الذي جعل بازوليني يقدم هذا الفلم، وذلك لكي أتساءل بيني وبين نفسي، هل يبيح السعي إلى إثارة النفور من البشاعة تصوير البشاعة نفسها؟ أليس عرض الفلم بحد ذاته عمل سادي؟ ألا يوجد طريقة أخرى غير هذه الطبيعية المطلقة للتعريف بالقبح؟

(زي احد الطقوس السادية)

هل بازوليني في استنكاره الموجه إلى الفكر الفاشي بعيد عن الماركيز دي سادي كثيرا؟ أعتقد أن الإجابة بالذات على هذا السؤال هي التي استحضرت إلى ذاكرتي زميلتي القديمة التي تعرضت لمحاولة الاغتصاب، فقد كان يكفي أن تعلن عن ذلك لكي أتعاطف معها، ولكنني لم افهم على الإطلاق دخولها في التفاصيل وشرح ما حاول الجناة فعله معها خطوة بخطوة، ورغم كل تلك الدموع التي كانت تنهمر من عينيها، والنعوت التي كانت تطلقها على الجناة، فقد شعرت بوضوح بلذة عميقة كانت تحصل عليها زميلتي من روايتها لتلك التفاصيل، ولا أستبعد أن تكون قد أعملت مخيلتها في تأليف بعض التفاصيل، أخشى أن يكون بازوليني قد فعل عبر فيلمه ما فعلته زميلتي في روايتها لمحاولة الاغتصاب.

(إحدى العاهرات اللواتي يلعبن دور الحكواتي)

 

(انتقاء الضحية)

(أحد الحراس)