شيء ما عن تاريخ النقود

ترجمة: 

نقلا عن مجلة "بلانيتا"

 

أجرى علماء أمريكيون منذ وقت قريب، تجارب مثيرة. حيث عرضوا على المتطوعين مؤثرات مرئية تحمل علامات نقدية- أي صوراً للعملات بشكلها الحقيقي، وأخرى مرسومة بمساعدة الكومبيوتر، وتلك التي تصادف في ألعاب الأطفال. فتبين أن ذلك  يساعد على تقوية الصحة النفسية. كما اكتشف العلماء، أنه حتى التأمل العفوي في النقود الحقيقية يبعث على الراحة، ويعزز سعي الإنسان نحو الذاتية. ويفترض العلماء أن النظر المنتظم إلى النقود يجعل الشخص أكثر نشاطاً بكثير، ويقوم بعمله على وجه أفضل وبسرعة أكبر.

أي أن منظر النقود بحد ذاته، يؤثر بشدة على الإدراك الباطني، ويبعث في النفس شعوراً يضاهي الإلهام. المثير في الأمر كذلك، أن التأمل لا يتعلق بكمية النقود، أو قيمة الورقة النقدية. لعله لغز من ألغاز الطبيعة!

لكن في الحقيقة، أن هذه النتائج تصدق - حسب الخبراء- على نقود الغير وحسب. فالتأمل بالنقود الذاتية، قد يؤدي إلى نتائج عكسية تماماً. إذ الخوف من فقدان رأسمال، باستطاعته إثارة إحباط عميق لدى ما لكه.

لم تكن النقود مذ نشأتها، تصر وتخشخش. فقد كانت على هيئة زينة من المحار والنحاس والعاج. وسيلة الدفع لدى مختلف الشعوب، كانت متباينة. فعند بعضهم كانت من سائل القهرة الحمراء، وعند آخرين من ريش العصافير، ولدى أقوام أخرى من قماش الكتان والفراء، وفول الكاكاو والخيول. كان ذلك مرتبطاً بالموقع الجغرافي للدولة. فمثلاً: في أيسلاندا بالقرن الخامس، كانت العملة الصعبة هي الأسماك المجففة. فمقابل ثلاثة قطع من هذه  "العملة" كان يمكن شراء حذائين نسائيين جميلين. ومقابل مائة من هذه العملة كان باستطاعة المرئ اقتناء برميل من النبيذ الجيد. أما في روسيا الغابرة، فاستخدموا القطع الجلدية كأوراق مالية، صدّقت قيمتها الاسمية بخاتم القيصر.

كان الناس كذلك، يحملون في جيوبهم، قطعاً طولها 15 بوصة، من أسلاك حديدية ثخينة. طول القطعة لم يكن محدداً. ما ترك الباب مفتوحاً أحياناً، أمام الدافع للاقتصار منها لصالحه. وإن أردت زيادة قيمة النقود، فلا مشكلة هناك- كان بالإمكان ضفر أكثر من سلك معا. إحدى نهايتي هذا الناقل بسطت، والأخرى لويت على هيئة جناح الطير. فإن تعرضت "الليرة" للالتواء أو الانكسار، كان لا بد من التوجه بها إلى الحداد لإصلاحها، وإعادة قيمتها إليها. غير أن هكذا نقود كانت تخسر من قيمتها، رغم انتشارها الأوسع في سيراليون وليبيريا وغينيا، إبان سبعينيات القرن المنصرم.

ما رأيكم "بفكة" قطرها – 3 أمتار ووزنها 4 أطنان؟ أجل، كانت تسمى هذه العملة بحجر الجنة. وكان لها انتشار واسع في ميكرونيزيا على جزيرة "ياب" ( المحيط الهادي). وصنعوا من بعض أصناف الحجارة الجصية نقوداً، دائرية وسطها مثقوب. كانت تدفع لقاء الصفقات الكبيرة، والأعراس. كل حجر من هذه النقود، كان له تاريخه الغني: فهناك من اقتلعه، ومن نقله. وكلما كان تاريخه أكثر مأساوية (مثلاً: عدد من مات في نقله )أكبر، كانت قيمته أعلى.  كما عرف التاريخ نقوداً من الفراء، فكانت تنتشر في روسيا. حيث ضربت هذه النقود من فراء مختلف الحيونات: السمور والثعلب الأبيض، والسناجب، والسنسار ("كونيتسا" بالروسية) ومن هنا جاءت تسمية العملة: "كونا".

لخمسمائة سنة قبل الميلاد قرر كسرى الفرس - داريّ - تغيير النظام الاقتصادي في بلاده. فألغى المقايضة في التجارة ، وأمر بصك نقود. لكنه بذلك لم يفز بلقب مبتدع عصره. إذ يرد المؤرخون ظهور أول نقود إلى عتبات القرن الثامن قبل الميلاد. يعد الموطن الأول للنقود مملكة "ليديا" في آسيا الصغرى والصين (حيث ضربت النقود من مصهور الذهب و الفضة). وقد لاقت النقود انتشاراً شاملاً هناك، حتى تخطت حدود المملكة.  

باتوا قلة من بات يذكر، أن العملة الورقية، كانت عبارة عن رمز، يخفي وراءه احتياطيات حقيقية من الذهب والفضة لدى هذه البلاد أو تلك. وكان الصينيون قد ابتدعوا هذه الفكرة. في ذات الوقت الذي أطلق الكسرى "داري" نقوده، كانت الصين تتعامل بالبديل الورقي للمعادن الثمينة- إيصالات خاصة (مثلاً: وثائق تثبت تسديد الضرائب). حيث كان الناس يتداولونها برغبة. أما تركستان (آسيا الوسطى) فكانت في العام 1918 على ما يبدو، تفتقر للذهب ، وإلا لما لجأت لاختراع الدراجة من جديد، ونشر "النقود الأفيونية". وهي لم تضرب من الأفيون بالطبع، بل نقود ورقية عادية. لكنها لم تغط باحتياطي ذهبي، لكن  باحتياطي من الأفيون (الحشيش) حُفظ في مصرف الدولة. لكن دورة هذه النقود لم تكن طويلة. حيث ألغيت بعد عام، وبذلك لم يصبح الأفيون عملة صعبة.

إن كسب النقود ليس بالأمر السهل، لكن إنفاقها بعقلانية وترشد، كما تبين، أعقد. من أين يبدأ من انتظر مطمع الثراء؟

يزعم النفسانيون أن  التصرفات اللا مألوفة تخمد الشعور بالوحدة والأسى الناشئة عن الثراء. ويبدو أن الصناعي الروسي المعروف، والذي عاش في القرن الثامن عشر- بروكوفي ديميدوف- قد تجرع كأس الأسى حقيقة. حيث حول بيته إلى سفينة نوح. فالسعادين والكلاب والأرانب والأسماك والطيور، وغيرها من ممثلي مملكة الحيوان، قد رفلت في غرف فارهة، ونامت على السجاد الفارسي الثمين، وأكلت من أوان ذهبية، واستحمّت في أحواض من المرمر والرخام. فهل ياترى، عوضّها هذا عن حرية البراري وفسحة الغابات؟!

المليونير الأمريكي- جورج جود- الذي عاش بين حدود القرنين التاسع عشر والعشرين، كان يحب التنزه على درج من الذهب الخالص، منصوب في بيته. ولم يكن يفوّت فرصة للتباهي بذلك.

ومن أهوائهم، أن أحد أثرياء ألمانيا، قام منذ مائة سنة خلت، بحجز خزنة حديدية مؤلفة من ثلاث طبقات، ومساحتها- 50 متراً مربعاً، وبابها يزن عدة أطنان. أخفى فيها جميع ثروته، وجعلها في قبو منزله. وكان ينزل إليها في الكثير من الأحيان، ليستمتع بالنظر إلى ثروته، ويتأكد من أنها بخير. وهكذا إلى أن اعتاد عليها تدريجياً، فشرع يسكنها، حتى مات بداخلها.

في القرن التاسع عشر،  حينما ظهرت النقود المعدنية للمرة الأولى في روسيا، راح أمراء الإمارات يضربون على النقود صورهم المتألقة . بل حملت النقود في أغلب الأحيان، إهانات موجهة للإمارات المجاورة. وبالطبع فقد أعاقت هذه النقود التجارة. خاصة إن وقعت بأيادي تجار أو أفراد من الإمارة المقصودة بالإهانة. وهكذا نشر الأمراء خصوماتهم وتبادلوا الشتائم على وجوه النقود. وحين احتدم الخصام، لجأ الجميع إلى نقود لدول محايدة.

يقول ما يشبه المثل لدى كثير من الشعوب: لن تأخذ شيئاً من النقود معك إلى عالم مابعد الموت. لكن في عهود الصين الغابرة، كانوا يفكرون خلاف ذلك تماماً. وحسب تلك العقيدة: أن الراحل إلى الملكوت الآخر، سيعيش حياة مماثلة لتلك التي على الأرض، ولكنها روحانية. وإذن لا بد وأن تلزمه النقود هناك. لذا ظهرت نقود خاصة سميت "بنقود جهنم" لحياة ما بعد الموت. جمعوها في حياتهم الدنيا لاستخدامها هناك. فبعد موت الشخص، كان أقرباءه يقومون من وقت لآخر، بحرق ما جمعه من "نقود جهنم". وبذلك كانوا يرسلونها إلى العالم الآخر ظناً منهم أنها تصل لصاحبها.

وهل للنقود رائحة؟ أجل. تملك النقود رائحة معدنية محددة. تنتج عن التفاعل الكيمياوي، إثر تماس المعدن مع عرق الإنسان. الرائحة هذه ضعيفة للغاية. ورغم ذلك يشعر بها الإنسان ويميزها عن غيرها برهف ودقة بالغتين. حيث أكدت الأبحاث أن العبق المعدني هذا، قريب جداً من رائحة الدم- التي يلتقطها الإنسان لحظياً وبحدة. وهذا ما يفسر الشعور المرهف نحو رائحة النقود. ألا يكون في هذا لغز سلطة النقود اللامتناهية؟!