كلب الآنسة

كلب الآنسة

د. ولاتو عمر

      "نقلت السيارة المهشمة إلى مكان ما بعد أن تم نقل جثة الفتاة إلى المشفى" هكذا ورد الخبر في

 صحيفة الحوادث اليومية ولفت نظري ما ورد في نهاية الخبر المؤسف "...و نجا من حادثة الاصطدام المروعة كلب الآنسة سفيتلانا الذي بقي في مكان الحادثة وهو ينبح نباحا غريبا متقطعا أشبه بالنحيب..."ولم تعلق الجريدة على الخبر اكثر من ذلك و لم تذكر تفاصيل أخرى.

    هطلت في ذلك اليوم ثلوج غطت كافة  طرقات و شوارع المدينة و أصبح تنقل السيارات أكثر صعوبة

 وتراصت في طوابير طويلة بعد أن انخفضت سرعتها إلى الصفر وطغت الكابة  على الجو العام و خيم

 الظلام بسرعة بسبب تراكم الغيوم الكثيفة السوداء و ضآلة الإنارة الليلية. وكانت حادثة الاصطدام المروعة

  قد وقعت على الطريق المؤدية إلى بيتي و نظرا لبطء تحرك السيارات بسبب حالة الطقس بدأت أتأمل بملل

  و تطفل زائد ذلك المكان و بحثت بعينيي عن الآثار التي خلفتها الحادثة على الموقع و فيما إذا كان قد

  تضرر كشك الصحف أو موقف باصات النقل الداخلي  فوجدت الكشك على حاله و لم يتضرر الموقف و لم

  يبق من آثار السيارات والاصطدام سوى شحم أو زيت أو ربما سائل البنزين غطى رذاذه طبقة الإسفلت و

 تغيير لون الثلج الذائب إلى الرمادي.

    ...ولمحته..لمحت الكلب يتحرك على قارعة الطريق, صغير الحجم من نوع البولينييز, أبيض اللون على

 الأغلب فالأوحال و الثلوج فعلت فعلتها. كان هزيلا جدا و ذيله متسخ تغطيه طبقة من الوحل الجاف و بدا

  تائها كمن يبحث عن شئ ما افتقده و ينبح بصوت عال كلما مرت سيارة ويعود لينبح بصوت منخفض و

  متقطع نباحا غريبا أشبه بالنحيب.

    بعد أن تجاوزت المكان بصبر نافذ و تلحلح سير السيارات  عدت إلى أفكاري المتكدرة من منغصات حياة

 موسكو أولها بعد مكان عملي عن البيت و الغلاء الفاحش في كل شئ بدا من المواد الغذائية و انتهاء

 بأجور السكن الخيالية . وما أن وصلت إلى البيت حتى نسيت أمر كلب البولينييز تماما.

    وبعد استراحة عطلتي السبت و الأحد توجهت إلى عملي, ولمحت الكلب مرة أخرى و نزلت لاشتري

 صحيفة اليوم فانتهزت الفرصة لأسأل عاملة الكشك عن الكلب فقالت لي:تصور أن هذا الكلب لم يبرح هذا

  المكان منذ يوم الحادثة  و ينبح بصوت عال كلما مرت سيارة بيضاء اللون لأن سيارة الفتاة كان لونها

 أبيض و يظل يطارد السيارات البيضاء مسافة طويلة إلى أن يصيبه التعب فييأس ويعود أدراجه إلى المكان

  لينبح بصوت منخفض ومتقطع نباحا غريبا أشبه بالنحيب. شكرت العاملة دون أن اسألها تفاصيل أخرى و

 تابعت طريقي إلى العمل تاركا الكلب الوفي المدهش مع أحزانه المرة والأليمة. 

    ظل الكلب في ذلك المكان أيام عديدة يزداد هزالا وغطت الأوحال والأوساخ  صوفه الطويل وبدا كشبح

 صغير إلى أن اختفى في أحد الأيام  فجأة و لم المحه بعدئذ أبدا. انتهزت الفرصة يوما عند شرائي جريدتي

 اليومية  وسألت العاملة عن مصير الكلب  فقالت :لقد نفق المسكين من الجوع دون أن يأخذه أحد يعتني به

 أو يرعاه أو يطعمه .كان يتضور جوعا كنت أطعمه من زوادتي اليومية وأنت تعلم بلا شك آي اجر نتقاضاه

 نحن العاملات المغلوب على امرنا وإلا كنت سآخذه إلى البيت و اعتني به. وبعد برهة أضافت بحسرة :آسفة على ما حصل له,لقد كان وفيا  قالت ذلك وكأنها الوحيدة المذنبة في  ما جرى للكلب :

-آسفة جدا .

ومن ثم استرسلت بالحديث بتشاؤم مبالغ عن اللؤم ونكران  الجميل بين البشر و كيف يتحاشى

 الصديق صديقه أيام الشدة والعوز ويبتعد عنه  وكيف أن الكلاب اكثر وفاء من البشر و بعدئذ تناولت

  العاملة موضوع الغلاء الفاحش و مواضيع أخرى كثيرة  تتعلق بالعلاقات بين الناس إلى أن نسيت

  موضوع كلب البولينييز . ودعتها بعد حين حزينا على حالتها المزرية وحزينا على وفاة صاحبة السيارة

 البيضاء وعلى كلب البولينييز,.وما أن ابتعدت عدة خطوات حتى نادتني بصوت عال:يا سيد , هل لك أن

 تقول ما قيمة ذلك الكلب الذي سميته البولينييز؟ فأجبتها متابعا طريقي نحو السيارة:بحدود الألفين دولار

 أمريكي على ما اعتقد. هزت العاملة برأسها بحسرة و قالت:لو كنت اعلم بسعره هذا لكنت أخذته إلى البيت,

  من يدري, ربما بعته بنفس السعر.

      آما  همومي اليومية فأجلت التفكير بها إلى موعد آخر

                                                                                                          18\3\2006