أوروبا السوداء والبيضاء

"لتزهر بمئة لون"- يقول ماو تسيتونغ، ثم يضيف: "عدا الفاقعة منها".

يزعم أنصار نظريات التعديدة الثقافية اليوم، أن لا ألوان "فاقعة". للكل ضرورة، ويستطيع الكل أن يعيشوا بسلام. المهم : أن يسود تسامح فيما بينهم.

ظهر مصطلح التعددية الثقافية (مولتيكولتوراليزم) في العام 1957، واستخدموه لتوصيف السياسة السويسرية بكلمة واحدة. بيد أنه في العام 1971 اعتمدت حكومة الوزير الأول الكندي – بيير تريودو – وثيقة رسمية حول التعددية الثقافية. وراح هذه المفهوم يجول أرجاء العالم. فما هي التعددية الثقافية؟  إنها في الجوهر: فكرة تعايش الثقافات المتنوعة دونما نزاعات. ويزعم مؤيدوها أنه لايجب على أي إنسان، أينما حل، أن يتخلى عن تقاليد شعبه. أقرت أوروبا الموحدة بمبدأ التعددية الثقافية رسمياُ، في العام 1997. بدأت الحملة من بريطانيا، حينما اعتلى سدة الحكم فيها حزب العمال. وتصادف ذلك مع انتشار أمواج فكرة العولمة في النصف الثاني من التسعينيات ، المرفقة بأمواج الهجرة نحو القارة الأوروبية من الشرق الأوسط والهند وأفريقيا. كان على الغرب ببساطة، اتخاذ قرار وعلى وجه السرعة: كيف التصرف مع هؤلاء الوافدين دون دعوة؟

لا بد من القول: إن أول المنادين "بالثقافة القائدة (الأساسية)" هم بالذات البريطانيون، في بداية الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم. عندئذ كان المهاجرون من دول العالم الثالث قد شغلوا سائر الوظائف التي لاتتطلب مهارة عالية. ما سد الطريق أمام الكثير من مواطني المملكة المتحدة. حينها. واحتجاجاً على ذلك، قام الشباب (المتضررون أولاً من ضيق ذلك "الاحتلال") بحلق رؤوسهم، ولبس الأحذية العسكرية، واقتناص المهاجرين وضربهم في الأزقة المعتمة.

 في نهاية القرن العشرين تغيرت الحال. فمن جهة، كان الإنجليز الأصليون (وغيرهم من الأوروبيين) يعزفون عن كنس الشوارع. إذ دب الكسل في أوساطهم ، وطفقوا يفضلون العيش على الإعانة الاجتماعية. وبتلك الأثناء درجت موضة التسامح الشامل من جهة أخرى. ومن جديد انبرى العماليون يُظهرون تقدميتهم، ونادوا بمناهضة العنصرية والخوف من الآخر. تناولت ألمانيا عصا التتابع في العام 1998، وذلك بعد ظهور تجمع "الحزب الديمقراطي- الاجتماعي الألماني" مع "الخضر"، الذي يتماهى مع العماليين في بريطانيا.

بالطبع، كان لسياسة التعددية الثقافية قاعدة اقتصادية واضحة المعالم- كفلت لأوروبا المتخمة أفواجاً من الأيادي العاملة الرخيصة. فالعمل الذي كان يطلب عليه الفرنسي- 100 دولار، قام به العربي مقابل 10 دولارات، وأحياناً بدولار واحد.

النتائج كانت أسرع من التصور: إذ يدخل أوروبا في السنوات الأخيرة  للإقامة الدائمة-لأسباب مختلفة- حوالى 900 ألف شخص سنوياً. ويرتفع هذا العدد من عام لآخر. أما منطقة "مونمارتريه" المشهورة في باريس بساحة الفنانين، قيصعب عليك اليوم أن تجد فيها أوروبياً، وإن وجدته تلقاه سائحاً من مدينة أخرى. جميع المقاهي هناك للأتراك والعرب. وهم من يأكل فيها. ويشكل انطباع لدى المرئ نسبة الأوروبيين في العاصمة الفرنسية إلى غيرهم من القوميات ليست في صالح الأولين. بل الأحرى إن هذا أمر واقع لكل شاهد عيان. الوضع مماثل في لندن. فالطوابير الواقفة أمام دوائر الهجرة، إما من سكان أفريقيا أو الشرق الأوسط. من المعلوم، أن أولاد من كانوا بالأمس بلا حقوق، باتوا اليوم وقد ولدوا في أوروبا، يعدون أنفسهم (وحسب القانون) أوروبيين بكامل الحقوق. ومع ذلك إنهم لايريدون أن يكونوا فرنسيين أو بريطانيين أو ألمان. ولاينفكون يعدوا أنفسهم : مغاربة أو أتراكاً أو جزائريين. يشكلون جاليات وينبرون للمطالبة بحقوق الأقليات الألمانية. مستندين في كل ذلك إلى أيديولوجية- التعددية الثقافية. يرى هؤلاء المتأوربون الجدد في كل خطوة للسلطات هناك تضييقاً على حقوقهم ومصالحهم أو تهديداً مباشراً لهم. ما صار يؤدي غالباً، إلى عواقب مخيفة (ليس آخرها أحداث الشغب والعنف التي اندلعت نتيجة لموت ثلاثة جزائريين منذ بضع سنوات). لا بد من القول: إن العلاقات بين السكان الأصليين وغير الأصليين في فرنسا، قد تأزمت حينما أصبح ساركوزي وزيراً للداخلية الفرنسية. حينئذ انطلقت الاتهامات بالعنصرية وغياب العدالة تجاه "الفرنسيين الجدد". على أن الرئيس الحالي ساركوزي، وهو الذي يحمل جذوراً لا فرنسية (بلغارية) لايخفي عدم شعوره بالود تجاه المهاجرين وأبناءهم. فمن الإجحاف اتهام العرب والأفريقيين دون غيرهم بأعمال الشغب والتخريب. فرنسا هي المثل الساطع. إلا أن سكان الدول الأوروبية الأخرى المحليون، على الرغم من أن الأمور لم تصل فيها بعد إلى الاحتجاجات الجماهيرية، ينتابهم أيضاً شعور النفور من الوافدين. فأولاً- الشعور بالخوف من الغريب- إذ يرصد الناس ظهور ثقافات وأديان غريبة عليهم. لاسيما أنه عندما يتعلق الأمر بالتقاليد الحيادية فهذا شيئ، وحينما نصطدم مثلاً، بتصورات أخرى عن النظافة والصحة، فشيئ آخر تماماً. وهنا تتباين الفروق جلياً ويصبح النفور متبادلاً. لقد سمعنا الكثير عن السياح البيلاروس الذين زاروا فرنسا:"لا أشعر بالارتياح حين استقل المترو الباريسي ويحيط بي في العربة زنوج". إنها صورة تذهل غير المتعودين عليها. حتى أولئك أصحاب الأفكار الأممية، لا يخفون دهشتهم حين يركبون المترو في إحدى العواصم الأوروبية، وينفردون بعرقهم الأوروبي وسط عشرات الركاب. وثانيا- في عصر الإرهاب الدولي، تصبح المناطق التي يقطنها المسلمون دورياً، معاقل للشهداء والمقاتلين. أصبح نقل وتنقل السلاح بين دول أوروبا التي ألغت الحدود فيما بينها سهلاً. وثالثاً- الاقتصاد، فأزمة 2008 كانت أدت إلى ارتفاع مخيف في مستوى البطالة. إذ يتزاحم اليوم على المكان الشاغر المهاجرون إلى جانب السكان الأصليون. عائدين بذلك إلى الوضع الذي كان  سائداً في أواسط القرن المنصرم. ورابعاً- القسم الأعظم من الهاجرين لايستطيع الوصول إلى مستوى من المعيشة جيد. إذ أن الأمر عزيز على بعض أهل البلاد، من ذوي العلاقات الاجتماعية المتينة. فما بالك بالقادمين من أفريقيا وآسيا، الذين لايملكون قدراً كافياً من التعليم، فضلاً عن فقرهم بلغة الوطن الجديد؟! حين يحاط الفقر برخاء ورفاهية غيريين، يدفع الغريب القادم إلى البحث عن سبل سريعة وسهلة للوصول إلى المال. ولا سبيل إلى ذلك إلا عبر الطريق الجنائي- فمجموعات عرقية إجرامية جديدة. وخامساً النفور العدواني للمهاجرين السائد غالباً إزاء تقبل تقاليد، وحتى قوانين الدولة، التي باتت بيتهم الثاني. فالقانون الأوروبي يرفض قطعاً تعدد الزوجات، فيما يدعي آخرون الزواج رسمياً بواحدة، وتأتي الأخريات كربائب وصديقات للزوجة، وغيرهن من المتطفلات. وليست ببعيدة قصة الغجر في فرنسا، الذين أبوا إلا أن يمارسوا تقليدهم في التنقل والترحال من منطقة لأخرى.

لقد تحدث نافذو البصيرة عن سقوط سياسة التعديدة الثقافية، منذ العام 2005. لكن الأمر لم يتجاوز الأحاديث، واستمرت السياسة ذاتها. كل من حاول الإفصاح عن حقيقة عدم وجود تعايش بين الثقافات، اتهم بالعنصرية، وصنف ضمن قائمة العار. مع أن هذا الموقف يطبيعي  برأي المواطن العادي. هكذا، كالرعد في وضح نهار ساطعة شمسه، أبصر النور كتاب في ألمانيا، في آب 2010 ، لعضو في في مجلس إدارة البنك الفيدرالي- تيلو ساراتسين- "ألمانيا تلغي ذاتها" . حيث جاء وقع بعض من خلاصاته، كدوي القنابل.

إذ كتب الأخير يقول: إن متوسط مستوى الذكاء لدى المهاجرين- المسلمين، أقل بكثير منه لدى السكان المحليين. حيث يعتقد أن "الذكاء يرتبط بنسبة 80% بالمورثات، و20% فقط بالتعليم والتربية". كما المتوقع، فقد أثار الكتاب عاصفة من الامتعاض، ما أكسبه انتشاراً واسعاً، وجعل مؤلفه مليونيراً. فترك ساراتسين منصبه وتفرغ للإبداع، تحت وقع انتقادات وجهته له النخبة الحاكمة في البلاد. فجأة وجدت أفكار ساراتسين مؤيدين لها بين السياسيين والخبراء. مع أن هذا كان متوقعاً. جاء قصف المستشارة الألمانية- ميركيل- من العيار الثقيل، إذ أعلنت:"لقد انطلقنا من فكرة التعديدة الثقافية، واعتقدنا أننا سنتعايش وسيقدر بعضنا بعضاً. بيد أن أسلوب التعامل هذا قد سقط، قد انهار تماماً". ثم عقب ميركيل ساركوزي بتصريح مشابه:" بالطبع نحن نحترم التباين، لكننا لا نريد مجتمعاً تسوده تجمعات معزول بعضها عن بعض. فإذا جئتم إلى فرنسا، عليكم قبول مجتمعها القومي، وإلا فغير مرحب بكم فيها. إن المجتمع الفرنسي لن يتخلى عن المساواة بين الجنسين، وعن حقوق البنات الضغار في ريادة المدارس." أما تصريح رئيس الزراء البريطاني - كاميرون- فلم يتأخر كثيراً:"علينا أن نرفض التسامح السلبي في السنوات الأخيرة، لصالح حرية أكثر نشاطاً وقوة."

بعد أن رفضت أكبر ثلاث دول في الاتحاد الأوروبي  فكرة التعددية الثقافية، ما من شك في أن هذا سيغدو سياسة عامة. السؤال: ما الذي سيحل مكانها؟ الأمر لم يعد سراً، فجوهره ليس في الصراع العنصري، بقدر ما هو ديني. إن عدم تسامح أصحاب التيارات الإسلامية المتطرفة مع أصحاب الديانات الأخرى، يثير ردة فعل قاسية من جانب هؤلاء. فراحت دولة إثر أخرى تصدر القوانين التي تمنع بناء المساجد، ويرافق هذا صخب هتافات مرحبة من قبل المواطنين المحليين. كما يمنع ارتداء بعض الألبسة التقليدية (الحجاب مثلاً). أي تتم عملية تحويل الوافدين قسراً إلى أوروبيين.

ما هي سمات المرحلة المقبلة؟  هل هي تقليص شديد للهجرة، والإجبار على تعلم لغة بلد المهجر؟ أم مناطق معزولة تسكنها الأقليات العرقية؟ غير معروف. لكن الواضح،  أن أنصار المجموعات النازية (القومية) باتوا يتزايدون عاماً إثر آخر في أوروبا، في مختلف مستويات أجهزة القيادة، والمجالس التشريعية الإقليمية. فهم قد تمترسوا جيداً في كل من: إيطاليا والنمسا والدنمارك وهولندا وهنغاريا. فإما أنهم ضمن الحكومة، إما يؤثرون بقوة في سياسة البلاد. طفقت في الآونة الأخيرة تتشكل لدى بعضهم خشية، من أنه خلال وقت قريب قادم، قد يخيم في سماء العالم رايخ رابع ألماني، بل أوروبي. هناك فرضية أخرى لتطور الأحداث: التخلي عن فكرة العولمة، وانهيار الاتحاد الأوروبي، والعودة إلى أوروبا في السبعينيات. بالمناسبة، يبدو هذا الاحتمال من وجهة النظر الاقتصادية احتمالاً لابأس به، خاصة لدولتين مثل: ألمانيا وفرنسا، تقومان بدور البقرة الحلوب للدول الأوروبية الأقل غنى. لكن هناك احتمال آخر، يتمسك به، أولئك الذين مازالوا يعوّلون على مبدأ التعددية الثقافية. فهم يشيرون إلى روعة المبدأ بذاته، غير أن خطأ انتاب استخدامه سابقاً. ويقترح بعض المسؤولين الأوروبيين التكامل بين المجتمع الغربي ، وليس الكتل الاجتماعية، بل وكل مهاجر على حدة. انطلقت تجارب هذا التعاطي منذ العام 2009. ولا نتائج تذكر بعد. وأخيراً، هناك توقع متشائم-. فالصحفية الروسية - تاتيانا جرمانوفا (صوت روسيا) - تعتقد أن الوقت قد فات للحلول واتخاذ التدابير:"بالطبع، فإن الاحتجاجات ضد تعايش، موسوم بالخوف من الآخر والعنصرية وعدم التسامح، أمر طبيعي.

لم يتأخر أهل البيت الأوروبي في الافتراق مع الوافدين إليهم الكثر وحسب، بل وبات متأخراً طلب خلع أحذيتهم."

ويبقى العزاء بترنيمة التعددية الثقافية، تحت إمرة "مايسترو" قادة الاتحاد الأوروبي المتزمتين".