الصحافة الروسية والثورات العربية

صحيفة "أوبزريفاتل" البيلاروسية

ماهي عواقب الحريق الإفريقي

 

يفغيني بريماكوف يتحدث عن توقعات وتقييم تطورات الوضع الثوري في دول الشمال الإفريقي.

لقد عدت منذ وقت قصير من واشنطن، حيث ابتعثت عن أكاديمية العلوم الروسية- يقول بريماكوف- والتقيت مع وزراء الخارجية وموظفيها الكبار والسفراء السابقين لأمريكا في بعض الدول العربية وإسرائيل. أثناء هذه اللقاءات جميعها تناقشت و محدثيّ عما يجري في العالم العربي. وأريد القول: إن هذه الأحداث كانت صدمة مطلقة لسائر النخبة السياسية الأمريكية. احكموا بأنفسكم: فقد كان رئيسي كل من مصر وتونس ينتهجان خطاً موالياً للغرب. إذ كافحوا الإرهاب وناهضوا المنظمات الإسلامية المتطرفة. فبات لدى واشنطن في هذه الظروف، انطباع بأن جميع هذه الانتفاضات تصنعها أيادي الإسلاميين. لكن سرعان ما صحت واشنطن من الصدمة، وانبرت تحاول إنقاذ مكانتها "كمصدر للديمقراطيات" في العالم. سيحاولون الحفاظ على القوى في المنطقة، التي ستحمي مصالحهم.

ما الذي يحصل؟

أهم أسباب الثورة: اقتصادية-اجتماعية- يتابع برماكوف- والفساد وغياب حرية الكلمة والأمل بحياة أفضل عند الشباب. تتسم هذه التغييرات الثورية- الديمقراطية بقسمات متباينة لدى مختلف الدول. ففي البحرين يتداخل الدين بشدة فيها. حيث 70 بالمئة من السكان هم شيعة والسلطة فيها بأيدي الأقلية من السنة. أما في مصر وتونس فالوضع الذي آلت إليه الأمور يدفع البطالة نحو الزيادة. وفي ليبيا أعلنت 22 قبيلة وقوفها إلى جانب المعارضة، بينما انحازت أهم قبيلتين في اليمن إلى القوى المناوئة للنظام. أقل الحظوظ بانتفاضة شعبية هي لدى العربية السعودية. فقد خصص الملك عبد الله في خطوة طارئة 36 مليار دولار "لرفع سوية المعيشة" في البلاد. أظن أنه لاحظوظ لدى القوى الإسلامية في الدول التي نجحت فيها الثورات في الوصول للسلطة فيها.

معرفتي بالقذافي لابأس بها. عندما استلم الحكم في ليبيا جاء إلى عبد الناصر وقال له: "ها هو مليون ، اشتر لي به لدى الاتحاد السوفياتي قنبلة نووية..." إنه الآن في عزلة دولية تامة. 

الفيس بوك سلاح البروليتاريا

مجلة "إيتوغي" الروسية

 

من سيجني ثمار الثورة العربية المحوكمة افتراضياً؟!  لقد امتدت موجة الاحتجاجات، التي انبثقت من شمال إفريقيا، عبر آسيا الأمامية، تلف دوامتها الثورية مختلف الدول، بغض النظر عمن يقودها، ملوكاً كانوا أم رؤساء، أم آيات الله، أم أنظمة تتوشح بشيء من الديمقراطية.

خلال شهر واحد، اهتزت العروش كذلك، تحت زعماء دول آمنة كالبحرين، وتحت زعامات كارزمية كمعمر القذافي، جاءت إلى السلطة على أسنة الحراب. الجميع يجمعهم شيء واحد- طول القعود على كراسي مذهّبة. ما أسأم المخلصين من رعاياهم لدرجة الموت. حتى الآن غير معروف بالضبط من سيجني ثمار هذه الثورات العربية؟ لكن الأكيد والذي لا يترك مجالاً للشك أن أحد الفاعلين  فيها- المتحكم باستنساخ برنامج الثورة في العالم الإسلامي، هي شركات الإعلام الأمريكية- أصحاب الشبكات الاجتماعية. فبطل ثورة مصر لم يكن البرادعي- أحد أشهر زعماء المعارضة المصرية- بل وائل غنيم  مدير شركة "غوغلي" في مصر، الذي كون رصيداً لهذه الثورة عبر "الفيس بوك". إنه السلاح الجديد للبروليتاريا. لقد خلقت "الانترنت" ظروفاً لتحقيق ديمقراطية مباشرة ونشر حر لأية معلومات دونما أية رقابة.

فمستخدمو التكنولوجيا الحديثة اليوم  يدعون: "بالجمهور الذكي". وعلى الرغم من أنهم قد يكونون متباينين لغوياً ومتباعدين جغرافياً، إلا أن التجربة قد أظهرت بجلاء، أنه يكفي موقع واحد في الشبكة، ليجمعهم حول هدف ثوري بعينه. لقد ظهرت قوة، انطلقت من فضاء الحوكمة الافتراضية، ثم انتقلت إلى الواقع الجيوسياسي، لا تعرف حدوداً حقيقية كانت أم مجازية. الأمر الذي يفسر انتشار طاقة الاحتجاج وفق "مبدأ الدومينو". وهاهو وائل غنيم يقول في حديث إلى "سي ان ان" عند سؤاله عن الدولة التالية لمحط رحال الثورة: اسألوا "الفيس بوك". ويرى الكاتب أن شرارة الثورة في تونس، قد جاءت أيضاً من خلال نشر موقع "ويكيليكس" في بداية كانون الأول 2010، رسالة مشفرة من السفير الأمريكي في تونس إلى خارجية بلاده، يفضح بها فساد أفراد أسرة الرئيس بن علي، وسلوكهم في التجارة وتجاهل قوانين البلاد. وهذا ما لا يترك مجالاً للشك، لا بقدرة تكنولوجيا المعلومات الحديثة، ولا بجدية تهيئة انتفاضات- الانترنت. كما لا مجال للريبة في أن زعماء الأنظمة المتقادمة، قد غفلوا عصر تقنيات الثورة العالية. فلا دبابات ولا مقاتلات، ولا مأجورون أجانب، ليس بقدرتهم التغلب على "تويتر" و "الفيس بوك". ألم يسجل محللون أمريكيون في تشرن الثاني 2008، بعيد انتخابات الرئاسة الأمريكية التي وصل من خلالها أوباما إلى سدة الحكم، أن الفضل في فوزه يعود  لشبكات التواصل الاجتماعية.  كما يشير الكاتب في مقاله هذا إلى أن ما يوحد جميع هذه الثورات، أن اللاعب الرئيس في ساحتها، هم شباب  لا يحملون أجندة إسلامية. أما عن الأيادي الأمريكية في اندلاع هذه الثورات، فنفاها زعيم الاستخبارات الأمريكية، حين قال، رداً على استفسار من قبل سناتور: "نحن لسنا أنبياء. لايمكننا التنبؤ بوقت وكيفية تحول عدم الاستقرار إلى ثورة". ولكن، وبما أن الشركات الأمريكية هي المسيطرة في مجال شبكات التواصل الاجتماعية، فمن السهولة بمكان، تحري صلة بين الحكومة الأمريكية والأحداث الراهنة في الشرق الأوسط، بل ومثبتةً منذ أمد بعيد.

أجل، إن الثورة العربية العظيمة في مراحلها الأولى تبدو بصورة عامة آتية عن رياح غربية. لكن أحداً لا يعلم من سيقطف ثمارها.

 

ألف انتفاضة وانتفاضة

(حول أسباب ونتائج الثورات العربية)

يفغيني ستانزفسكي- المستشرق الروسي ورئيس معهد الشرق الأوسط يتحدث لـ "إيتوغي" الروسية

 

يبدو أن الثورات العربية تتحول لثورات عالمية، ما هي نتائجها العالمية؟

-         إن نهاية الأنظمة الشمولية والملكية قد أزفت ساعتها. ماذا سيكون تالياً عليه الأمر، ومن أين ستمر الحدود، وهل تبقى على وضعها الراهن هذه الدول أو تلك، أم أنها ستختفي نهائياً؟ مازلنا نجهل ذلك كله. يبقى لنا فقط التكهن بأن الأحداث الراهنة ستضرب بقوة هائلة على الأقليات الدينية في العالم الإسلامي. وقبل كل شيء بالمسيحيين. إذ سيصل إلى السلطة في الدول السنية، أناس على نمط قائد الثورة الإيرانية العام 1978 آية الله الخميني. وينتظر هذه المنطقة سيطرة من قبل تركيا، وإيران، إن نجت هذه الأخيرة، من المواجهة مع إسرائيل. على الصعيد العالمي، قد يعتري الموقف الأمريكي والأوروبي ضعف، في حين تقوى قدرة الصين. 

ألا يبدو لكم، أن وراء الأحداث الراهنة تقف قوى معينة، ربما إيران أو الولايات المتحدة؟

-         لقد قام الجميع بأرجحة الزورق في الشرق الأوسط، والجميع تصارعوا مع بعضهم بعضاً. فقد عمل الكثيرون ضد مصر، بما فيها قناة تلفزيون "الجزيرة" القطرية. وسبب ذلك بسيط: فأمير قطر لم يكن مرتاحاً لمبارك ولم يكن يخفي هذا. أما شيوخ السعودية، فيموِّلون المجموعات الإسلامية- "الإخوان المسلمون". لقد كانت واشنطن تعد مبارك من حلفائها، ورغم ذلك قدمت خدمات مختلفة للمعارضة، مفترضة أنه لابد من دعم  أية ديمقراطية، حتى لو أضر هذا بعلاقاتها مع هذا الشريك أو ذاك.

والآن، فقد انهار كل شيء، وانقلب الزورق.

أين نهاية هذه الثورة، وهل سيستشري داءها، في فضاء مابعد الاتحاد السوفياتي؟

-         كل ما كان يمكن أن ينهار قد انهار في آسيا الوسطى والقفقاز. وبالتأكيد لن ترجع الأمور إلى ماكانت عليه في أوكراينا وقيرغستان.

ماهي برأيكم السياسة التي يجب على موسكو اتباعها في الشرق الأوسط؟

-         لابد من إقامة "ستار حديدي" أمام الإرهابيين ومختلف المجموعات الإسلامية. لا يجب على موسكو التدخل المباشر في الوضع، من خلال محاولتها إغراق الشرق الأوسط بالأموال. ولا ينبغي الهرولة أمام الجميع وسط حقل ملغّم، بل يجب تقديم من يرغب بالمسير عليه. لابد من التمسك بعلاقات ومسافات واحدة من القوى العاقلة، ومحاولة توخي الحذر، إن دار الحديث عن إنقاذ الناس والأموال. ذلك أن التجارب تظهر استحالة استرجاع هذا وذاك. لقد أضعنا إثر انهيار حقبة الاتحاد السوفياتي، ما قيمته- 100 مليار دولار، وممتلكات بهذه القيمة تقريباً. لم يرد لنا أحد شيئاً سوى الهند، ومن الواجب استحضار هذا الدرس دوماً.

كيف ستتصرف إسرائيل في الظروف الجديدة؟ 

-         إسرائيل الآن تراقب الأحداث باهتمام. لقد أيقنت تل أبيب منذ أمد بعيد أن الدولة الفلسطينية لم تقم. وإن أجريت هناك انتخابات حرة، طالما تحدث عنها الأمريكيون،  ستعتلي السلطة "حماس". وهذه الأخيرة ستمحو الأردن كدولة. بعد هذا سيتحتم على إسرائيل إعادة ترتيب الأوضاع، ولكن على مساحة أكبر. إن إسرائيل مستعدة لإعادة النظر باتفاقيات كامب ديفيد من قبل السلطات المصرية الجديدة، التي قام عليها توزيع القوى في الشرق الأوسط وترتيبها حتى الآن. وإسرائيل مستعدة لحرب جديدة، إذا حدثت. كما إنها مستعدة لوضع يخذلها به الأمريكيون، وتكون مضطرة للمحاربة دون دعم من الولايات المتحدة الأمريكية. وهي جاهزة أيضاً للانتفاضات الداخلية، التي قد تنطلق من الأراضي الفلسطينية، وكذلك جاهزة لخيانة النواب العرب في الكنيست.

هل نحن بوارد انتظار اضطرابات في العربية السعودية- المستودع الدولي الرئيس للنفط؟ 

-         من المشكوك فيه أن يبعث حكم الكهول هناك (متوسط عمر الأمراء السعوديين- 87 سنة) الأمل في نفس أحد. لكن الوضع الأعقد هو في الأردن حالياً. حيث أطلقت الأميرة هيا العنان لرغبات أقربائها الفلسطينيين، الذين يمولون العديد من مشاريع المضاربة. ويتصدى بهمة لهذا القبائل البدوية، ما يشكل بؤرة توتر خطرة. إذن هناك احتمال كبير لسقوط الملكية.

إلى أي درجة لعبت تكنولوجيا الشبكات دوراً في الانتفاضات العربية؟ 

-         لقد باتت "التويتر" و "الفيس بوك" منظماً جماعياً للجماهير. ويبدو أنها كانت مناسبة جداً، ليس لجهة رفع حرارة التوتر، بل ولجهة إضرام نار الوضع. وبالنسبة لتكنولوجيا المعلومات، فقد دخلت المنطقة فعلاً في فضاءها المعاصر، لكنها وللأسف، فقط في هذا المجال.

 

الكل أحرار

 (مجلة "إيتوغي" الروسية) 

العدد 7   (14.02.11) 

        حياة السياسي دائماً لها نهاية كما لها بداية. لقد حكم الرئيس الرابع لمصر- محمد حسني مبارك- منذ تشرين الأول 1981 حتى الحادي عشر من شباط 2011. إنها فترة أبدية لرئيس بلد. استلم السلطة بعد مقتل السادات على يد إسلاميين. حينها كان مبارك- نائب الرئيس- أيضاً على بعد سنتيمترات من الموت. كان منطق حكمه صارم ومستقيم كمعادلات الجبر: فقد أعلن منذ اليوم الأول من حكمه حالة الطوارئ في البلاد. أما في يومه الأخير، فقد تخطت مصر حواجز الطوارئ . وترك حسني مبارك منصبه.. قرر نقل السطات في البلاد إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة- جاء ذلك على لسان نائبه عمر سليمان. وعم ساحة التحرير التهليل والابتهاج- "مصر حرة!" ويبقى أن نسأل: ممن ومماذا هي حرة؟

الجواب على سؤال: ممن؟ أسهل. فلقد كان مبارك يدرك ثمن الحرب والسلام. إذ شارك فيما لا يقل عن خمس حروب، وهو الذي تعلم تقنيات الطيران في الأكاديميات السوفياتية.. وفي أوقات السلم علق مشانق الإسلاميين، وتسالم مع المعارضة والإسرائيليين، وبات الزعيم- من الوزن الثقيل- المعترف به في الشرق الأوسط. والآن شغر هذا المنصب.

ومماذا تحررت مصر؟ الرد هنا أصعب. فبالنسبة لسائر العالم مصر اليوم حرة من الاستقرار. فهل يستطيع العسكر، الذين تسلموا السلطة من الرئيس السابق، الذي غادر إلى وجهة مجهولة إعادته إليها؟ لقد كانت الانتفاضة المصرية موجهة بالذات، ضد النخبة الدائرة بفلك العسكر، والتي حكمت على مدى العقود الأخيرة. إن من المشكوك فيه أن يقسم المناوئون المبتهجون في ساحة التحرير، بولاءهم لأتراب الرئيس السابق من العسكر. ولسليمان، الذي أنهى في حينه أكاديمية "فرونزه" الحربية في موسكو. بيد أن مصر ذات الثمانين مليوناً، لا تملك ذراع استقرار آخر غير الجيش. ولكي لا تغرق مصر نهائياً، في بحر من الفوضى، لابد لها من اتحاد بين العسكريين والجزء الواعي من المعارضة، و"الإخوان المسلمون" أيضاً. فها هو اتحاد "السيف والهلال" يعمل في تركيا، متجسداً بالنخبة العسكرية والحزب الإسلامي الحاكم. هذا الزواج المحسوب، هو عملياً، المخرج لمصر، ولجميع من يراهن عليه في رحاب الساحة السياسة الواسعة أيضاً. وخلافاً لذلك، لا مهرب من حرب أهلية. وهذا ما تنتظره إيران، التي تنوي اختطاف دور الزعامة من القاهرة وسط العالم الإسلامي. لقد أعلن برلمان الجمهورية الإسلامية منذ فترة وجيزة، أن الثورة المصرية جهاداً. وهناك، حيث الحرب من أجل العقيدة،  هناك كما هو معلوم، لا ازدهار اقتصادي، ولا سياح مستلقون على الشواطئ. 

 

أوباما يخلع القناع ويشرع بتوزيع جديد للعالم

"مصر وتونس، ما هما إلا بداية لعبة كبيرة" 

سرغي كورغينيان- كومسومولسكاليا برافدا (24/2/2011(

لقد شبه أوباما الأحداث في تونس ومصر بسقوط جدار برلين. وهذا أبعد ما يكون عن الصدفة، فقد بدأت المرحلة الثانية لتغيير البنية العالمية (إعادة البناء الثانية). إذ قذف بالمنظومة البنيوية السابقة (مشروع الحداثة)، التي صيغت بصورتها النهائية بعد الثورة الفرنسية، إلى المزبلة. كان أساسها الثقة بحقوق سائر الشعوب بالتطور حتى مستوى الشعوب المدعوة بالمتقدمة. أما البنية العالمية الجديدة فلا تفترض هذه الحقوق. لقد حذر مالتوس منذ نهاية القرن الثامن عشر: الثروات الطبيعية لن تكفي الجميع. ومن هنا جاءت فكرة النخبة: ولمَ تطوير الجميع؟ إنه مذهب "المليار الذهبي"- جزء من البشرية قد عبرت بوابة الحداثة، ولابد من توقيف الباقي وإغلاق البوابة أمامهم. تصوروا لو أن الصين والهند تطورتا ووصلتا إلى مستوى أمريكا: لدى كل مواطن فيلا وسيارتان، وغيرها من الرفاهية. فكم يلزم من الكهرباء ومصادر الطاقة الأخرى لسد هذه الحاجات؟!

إن الشرق راهناً، مصدر النمو السريع، يقدم للعالم رصيداً رخيصاً ومنضبطاً ونشيطاً لليد العاملة، مأخوذاً من المجتمع الزراعي- وهذا هو التحديث والتصنيع.  أما الغرب- القسم الثاني من الكرة الأرضية- فلا رصيد لديه لليد العاملة الرخيصة، ولا يملك أسباباً قوية لتلك المصادر العاملة. ومن هنا يسعى نحو الانتقال من التصنيع إلى العمليات المالية وتجميع المال "من الهواء". وهذا هو "ما بعد الحداثة"- تعددية متراخية خاملة، بدل مجتمع مدني مستهلك، وتراجع في تعداد السكان، وفقدان للقيم الأخلاقية. إن الغرب اليوم- روما جديدة في عصر الانحطاط. وأما القسم الثالث من كوكب الأرض، فهو الجنوب- الجمال والخيام "نحن لسنا بحاجة إلى تطوركم الدنس. ينبغي للحياة أن تكون نقية، ومفهومة، وصحيحة ودينية. وكل ابتعاد عن هذا إثم"- هذا هو تضاد الحداثة - العصور الوسطى الجديدة، وبالأحرى الأسلمة. الإسلام: الدين العالمي الذي استبق الغرب منذ القرنين الحادي والثاني عشر. لقد تتلمذت أوروبا على يد الإسلام. إن دول العالم الإسلامي راحت في الوقت المعاصر تجمح نحو التطور أيضاً. لكن الغرب يحول دون هذه المحاولات، ويساعد أعداء التطور فيها على الانتصار. إن الإسلام أسس ثقافية لها خصوصية، تربّت بعون مباشر من الغرب. وبالطبع كانت هناك قوى داخلية في ذات الإسلام- قوى غامضة. الإنجليز، هم بالذات الذين أنشؤوا "الإخوان المسلمون" في مصر إبان حكمهم لها، والذين سيجنون، على الأغلب، ثمار الأحداث المصرية. فلماذا أنشؤوا الإسلام المتطرف؟ لمهاجمة الدول غير المطواعة للغرب. لتدمير الامبراطورية العثمانية، ووجهوه ضد الامبراطورية الروسية في القفقاز وآسيا الوسطى. ثم حولوه ضد الاتحاد السوفياتي، ثم ضد زعماء باكستان المعتدلين، فأفغانستان. إنهم يحاولون إعادة صياغة لسائر الجنوب، لجهة أن يرفض التطوير، وأن يتحول لكتل عدوانية مشبعة دائماً بالإرهاب، يمكن دفعها إلى أية وجهة كانت. وجهة الضربة الرئيسة اليوم، في المقام الأول، هي الصين. فسياسة الواقع تقول: أي دولة تأخذ بالاقتراب عظمةً من مستوى الولايات المتحدة - هي العدو رقم واحد. وقريباً ستتخطى الصين أمريكا بمؤشرات كثيرة فضلاً عن القوة والعظمة. تصوروا لو أن الصين راحت بعد خمس سنوات، تطالب أمريكا بديونها. حينها سينهار الدولار. لذلك ستحاول أمريكا تدمير منافسيها. والدور آت على الهند، من خلال بعث الإسلام الهندي هناك. والأمر لا يعدو إشعال فتيل وحسب. إنه الهلال الناري: الجزائر، حيث الإسلام المتعاظم، وتونس التي كانت رمزاً للعلمانية والبعد عن الإسلام، والتي كانت دوماً حاجزاً أمام تشكيل هلال إسلامي كبير من المغرب إلى أندونيسيا. فهاهي تونس قد سقطت، فمصر. وهاهي اضطرابات جديدة في اليمن والجزائر والبحرين والأردن، وحتى ليبيا قد انتفضت. وستلف هذه الموجة مختلف الدول العربية. أما العراق فقد تم تدميره وإلحاقه بإيران. لا تقولوا لي إنه الجوع الذي دفع الجماهير إلى هذه الانتفاضات، بل إن العملية عن سابق تخطيط. هلا قرأتم ويكيليكس. أجل هناك بعض الألاعيب في هذه الوثائق. لكن الولايات المتحدة كانت تنوي منذ زمن تغيير النظام في مصر بالعام 2011. وانطلقت الأحداث جميعها عقب نشر وثائق ويكيليكس. لا يمكن لأسانج وحده ترتيب هذا العمل وتسريب كل هذه الوثائق. إنها حرب الأجهزة الخاصة، والنخب والمشاريع العالمية. فلا يمكن بحال، تجاهل المساندة المحمومة التي ابداها أوباما "للثورة" المصرية، وكيف انبرى يضغط على مبارك. بخطابه في القاهرة عقب توليه منصب الرئاسة، لمح أوباما حينئذ، إلى أنه يمد يد الصداقة للإسلاميين، فضلاً عن تأكيداته على الانسحابات السريعة من العراق وأفغانستان. وفي الخطاب أيضاً إشارة إلى النظرية الجديدة للديمقراطية في العالم الإسلامي. وهذه الأخيرة، أهم ما في الأمر. ذلك أنه  يعني في عدد من الدول، وصول الإسلاميين للسلطة. وتندلع فيها تصفيات دموية. وإن كل هذه التفجيرات والأعمال الإرهابية، ماهي إلا بوادر لما سيكون. ينزل أشخاص سراً في فنادق ريفية، من أوروبا، يجتمعون ويقسمون العالم. بيد أنهم لاينتمون للمحافل الماسونية أو نوادي بيلدربيرغ. بريجينسكي  (مستشار الأمن القومي للرئيس السابق كارتر) ليس إلا الشخصية الأكثر شهرة بينهم، المخلصة لعملها على مشروع الشراكة العميقة للولايات المتحدة الأمريكية والإسلام المتطرف. وعندما نقول بريجينسكي  نقصد النخبة. أعتقد أن من يشعل فتيل الانتفاضات ومن أشعلها، هم مبعوثون أمريكيون، يرتبطون بعلاقات عميقة مع إسلام سري غير معلن. أما دور تنظيم هذه الانتفاضات فيعود لجون برينان- النائب السابق لمدير وكالة الاستخبارات الأمريكية، والمستشار الحالي لأوباما للأمن الداخلي والتصدي للإرهاب، والخبير القديم بالشرق الأوسط. يقف وراء كل هذا- اللاعب الأهم- شركة احتكار عابرة للقارات لتجارة الأسلحة والمخدرات. إذ تضاعفت كميات إنتاج الهيروين في أفغانستان لثلاثين مرة عما كانت عليه. وهم لا يدفعون أموالاً لقاء المخدرات، بل أسلحة. وهنا تشارك النخب من الأجهزة الخاصة بنشاط في هذه العمليات. تتداول هذه الشركة مبالغ تصل بتقديري، إلى التريليون دولار. وهناك لاعبون آخرون، هم الديمقراطيون الذي يداعبون الإسلاميين، وداعبوهم إبان حكم كارتر وكلينتون، ويواصلون الآن مع أوباما، الذي- بالمناسبة-  سيحظى بفترة ولاية ثانية. فدعمه للثورة المصرية قد عبر بجلاء عن موقفه.

إسرائيل الصغيرة سيقذف بها إلى الذئاب. ففوز "الإخوان المسلمون" في مصر هو أولاً ضربة لإسرائيل. فهل تسمح بذلك أمريكا؟ عندما ساد العهد السوفياتي، كانت إسرائيل ضرورية بمكان لأمريكا، كحاملة طائرات لاتغرق في الشرق الأوسط. لكن الحرب الباردة انتهت منذ أمد بعيد. فما الداعي لتمسك الولايات المتحدة بإسرائيل؟ إنها العائق أمام اتحادها بالعالم الإسلامي. إني على دراية بالساسة الأمريكيين، الذين يقولون في المحادثات المغلقة: إن التحكم بالعالم سيكون أسهل من دون إسرائيل. وحب اليهود الأمريكيين للأرض الموعودة مبالغ فيه جداً. ديفيد أكسيلرود لا يطيقها، وهو أكبر مستشاري أوباما والمطبلين له. وبريجينسكي  وسورس يطالبان بالضغط ما أمكن على إسرائيل. وهناك عامل آخر، فبوش الابن كان قد خرّب العلاقات كثيراً مع الإسلاميين، ولابد من عطية يقذف بها لهم- وهي إسرائيل. فهل يتسنى لأوباما إنشاء هذا الهلال الناري؟ أمر متعلق بالكثير من العوامل، بما فيها سلوك العسكريين في مصر، ونظراء مبارك المخلوع في الدول المجاورة. فهل سيستطيعون الاحتفاظ بالسلطة وإجراء تطهير من الفساد والآثام، أم يستسلمون لطفاً "للأخوان المسلمين"، مع شكنا في هذا الاستسلام لطفاً.