التخليد الرقمي

ترجمة: 

دأبت البشرية تحلم على مدى العصور بالخلود، وما انفكت تبحث عن السبيل إليه، فيطل العصر الحادي والعشرون حاملاً إمكانيات جديدة للوصول إلى هذا المبتغى. فقد اقترح علماء من جامعة "ستيند فورد" يبحثون ويصممون أحدث التقنيات الرقمية، طريقتهم للحفاظ على حياة أبدية للبشر، إذ يعدّون أن أرقمة الدماغ البشرية - هو السبيل الذي سنسلكه جميعاً نحو الحياة الخالدة، من خلال الـ"بيتات" والـ"بايتات" الحاملة للمعلومات.

 

 

        إن علماء الكشف عن المستقبل واثقين من أنه بعد مرور 30- 40 سنة، ستصل تقنيات الحواسب إلى مستوى يسمح بسهولة إجراء أرقمة للدماغ البشرية، وبالطبع سيكون الطب في هذه المرحلة أيضاً ، قد قطع شوطاً بعيداً نحو فك رموز سائر الإشارات الصادرة عن الدماغ، وفي دراسة أدق مبادئ عمله. عندما سيُدرس هذا كله، فإن عملية تحويل النبضات الكهرومغناطيسية لنشاط الدماغ، إلى أرقام لن تكون صعبة. وهكذا يصبح تصميم الذكاء (الدماغ) الاصطناعي عملية واقعية تماماً، وسيكون العقل الافتراضي نسخة طبق الأصل عن الواقعي، لكنه سيحيا وينمو، ليس على أساس بيولوجي، بل ألكتروني. وهذا ما يؤكد كلام عالم المستقبل الشهير، ورئيس شركة "فوتوريزون" يان بيرسون:"ستصل تقنيات الحواسب على أعتاب العام 2050 مستويات عالية من التطور، تسمح بتحويل الإدراك البشري بالكامل إلى حاسوب متفوق.

 

 

        سيقوم جهاز خاص، لحظة وفاة الإنسان، بنسخ دماغه، مسجلاً الكمونات الكهربية لعصبونات الدماغ في الحاسوب، وبفضل هذه "الأرقمة" ينتقل الإنسان بانسيابية، دون إدراك منه، إلى واقع افتراضي، حيث بإمكانه العيش الأبدي. وهكذا، يستطيع إدراكنا تجاوز مرحلة  موت الجسد، التي لن تكون مستقبلاً، مشكلة للبشرية. هذا الأمر واقعي تقنياً، فقد أنتجت ألعاب كومبيوترية "سوني بلي ستيشن-3" مزودة بمعالج "سيل" يستطيع العمل بطاقة تصل إلى /218/ غيغا فلوبس، ما يجعلها تتربع جانب الحواسب المتفوقة، المصممة منذ عشر سنوات فقط، وتعادل هذه الاستطاعة 1% فقط من استطاعة الدماغ البشرية. بالطبع، ستكون هذه التقنيات في متناول الأغنياء وحسب، في مرحلة البداية، ثم تصبح في متناول البسطاء بمرور عدة سنوات.

        إن الحاجة إلى الحواسب المتفوقة، يمليها التشابه، إلى حد التماهي، بين العمليات التي تجري في معالج الحاسوب والدماغ البشرية، والفرق أن إمكانيات الدماغ البشرية، تفوق بكثير قدرة الحواسب. غير أن العلماء قد بدؤوا بتجارب نقل الشخصية إلى عالم افتراضي، لكنهم ما زالوا يعملون على جمع وتحليل السير الذاتية والصفحات الاجتماعية، والنشاط عبر الانترنت، والمحادثات الهاتفية والمراسلات الالكترونية، والهدف من هذه الأعمال- نقل الشخصية إلى حوامل أخرى- أي فصلها عن الجسم. وبذلك، على الرغم من أن الدماغ ستموت فيزيائياً، لكنها محتفظة بالمعلومات التي تلقاها الإنسان على مدى حياته، وستتيح حواسب المستقبل، ليس فقط الحفاظ على الشخصية، بل وتطويرها.

 

 

        إذن، ما سيحصل في أواسط هذا القرن، أن الأطباء والمبرمجون سيتمكنون من وصل الراغبين من البشر، إلى جهاز، يقوم بتحميل مداركهم، وسيحصلون فور الانتهاء من عملية التحميل، على نسخة مطابقة رقمية لهذا الإنسان، من ثم ستكون ذاكرة القرين الالكتروني قادرة على تذكّر كيف جرت عملية التحميل، وكيف أصبح هو في عالم جديد. وسيكون على ثقة بأنه قد قام برحلة فقط، من الغشاء البيولوجي إلى الالكتروني. أما الإنسان الحقيقي، فسيعيش تالياً، مع قرينه في رحاب الانترنت على حد سواء. وللأسف، إن الخلود بحد ذاته، سيكون من حظ الشخصية الالكترونية فحسب، دون الشخص الذي أسسها.

 

 

ويعتقد علماء النفس والأطباء أن هذه المعرفة (الإحاطة بالنفس) ستضغط بشدة على نفسية الفرد وستؤثر عليه، لذا، يُنصح بإجراء أرقمة الشخصية عند مراحل العمر المتقدمة، أو في مراحل اقتراب الشخص من أجله، وفي هذا الأمر إيجابية أخرى- هي أن شخصية الإنسان باتت في طور تكونها الكامل، فيتطور معها القرين (النسخة) ضمن طباع وصفات مثبتة لذلك الإنسان. ويرى العلماء ان هذا سيكون أحد الشروط الضرورية لاستنساخ الإنسان، إذ إن عملية الاستنساخ تشمل الأفكار والمعارف، دون شعور وانفعالات الشخصية. ما يعني: أنه كلما حاز القرين على معلومات محددة ومميزة أكثر، وخبرة حياتية أكبر عن الشخصية، كان الشبه بها أكبر. الكسندر بولونكين- أستاذ معهد التكنولوجيا في نيوجيرسي- يعلن بثقة: "إن أجسامنا البيولوجية تبرد وتعاني من الحر، وهي بحاجة إلى لباس واعتناء، وضعيفة أمام التأثيرات، فيما الأمر مريح لحدود بعيدة، مع الجسم الافتراضي، الذي يمتلك قوة هائلة، ولا يتأثر بالبرد أو الحر، ولا يحتاج إلى الطعام والهواء". هناك أيضاً إيجابية أخرى لصالح هذا القرين الرقمي، تتمثل في الوصول، دون حدود، إلى كنز المعلومات، لتصبح أية معلومات تحت تصرف الشخصية الافتراضية ، وبالكمية التي تريدها، والأهم من ذلك، الوقت اللازم للتعلّم والتطور. إلى جانب كل هذه الإيجابيات الجلية، فإن للدماغ الرقمية سلبياتها أيضاً، التي قد تبدو لبعضهم جوهرية جداً، أهمها: هل ستكون الشخصية الافتراضية كاملة؟ حيث إن استنساخ أفكار ومعارف الإنسان، لا يعني كل شيئ البتة: فهل ستشعر الشخصية الافتراضية بالأحاسيس، وهل ستعاني الانفعالات، وهل سيكون عندها عادات جيدة وأخرى سيئة، أو ستتحلى بالضمير مثلاً؟ الحق، أنه ليس لدى العلماء أجوبة مباشرة عن هذه الأسئلة. أما المسألة الثانية، فتعني المختصين بتقنيات المعلوماتية - وهي ضمان أمن المعلومات، إذ حتى وقتنا الحاضر، ليس هناك خوادم (سيرفير) موثوقة مئة بالمئة، ما يعني تعرض أي معلومة للسرقة، أو تغييرها أونسخها، أو محيها بكل بساطة. أما السلبية الثالثة، فهي حوامل المعلومات- فكل إنسان، لا شك، يريد وضع قرينه الخالد لدى الأيادي الأكثر أمانة (الأجهزة). لكن أحداً لا يضمن الخادم في الكومبيوتر من تقلبات الحرارة، أوالتوتر في الشبكة، التي قد تؤدي إلى فقدان كامل أو جزئي في المعلومات، أو تغييرات بها- أي في الشخصية الافتراضية.

 

 

يعتقد بعض العلماء، أن أرقمة الدماغ ما هي إلا نصف المهمة، ويسعون لأرقمة الإنسان بالكامل- أي مع خواصه الفيزيائية وصفاته الفردية. فما المانع من تطوير وتحديث الجسم، أسوة بالدماغ عبر الشبكات الحاسوبية. وقد قام أنصار هذا التوجه بالكثير نحو هدفهم، وإحدى الطرق في هذا المجال- التصوير ثلاثي الأبعاد، الذي بات يستخدم لتصوير الكثير من الأشياء بأبعادها الثلاثية، لكن الصور الالكترونية ثلاثية الأبعاد للأشخاص، ظهرت منذ مدة وجيزة فقط، لأن الجسم البشري يعد أحد أعقد المنظومات التركيبية، وإنشاء طراز حيّ له متحرك، دون استخدام وسائل التقنية المعروفة لنا في مجال الأفلام، أمر غاية في الصعوبة. فمايزال تصوير الإنسان، ونقله إلى الفضاء الافتراضي، دون تغير هنا أو هناك، صعب المنال. فكل جزء من الجسم يجب تحليله على حدة، ليس فقط في سكونه، بل وفي حركته، وفي ما لا يقل عن /30 – 40/ وضعية، ومع ذلك، سيظل ظهور المقاطع الظلالية (وهي الأجزاء في الجسم التي لا تتمكن الأجهزة من تصويرها، لتعقيد بنيتها) أمر لا مفر منه. وهنا تأتي البرامج الذكية لمساعدة أجهزة التصوير، حيث تملأ الفراغات التشريحية في الصورة. وبعد الحصول على أجزاء الصور، تجري عملية وصلها ببعضها (خياطة)، فنحصل على نتيجة مثيرة للغاية، بعد مرور النسخة الالكترونية للشخص عبر العديد من الفحوصات والتدقيقات.

 

 

إن التقدم على هذا المضمار (أرقمة الإنسان)، والذي يبدو حالياً ضرباً من الخيال، هائل. فقد عقد المعهد الحكومي الياباني للمعلوماتية وتقنيات الاتصال، مع جامعة مدينة أوساكا اتفاقية،للقيام بأبحاث مشتركة، لجهة إنشاء أحدث التقنيات لقراءة المعلومات والتصورات، التي تنشأ في الدماغ البشرية. وفي حال نجاح العلماء في هذه المهمة، فإن هذه التقنيات ستسهل عملية اتصال الدماغ بالعالم الخارجي جزئياً أو كلياً، للمرضى المشلولين.  

 

 

إحدى الخطوات نحو أرقمة الإنسان، هي منظومة آلية للتعرف على المخطوطات اليدوية "Blurred Shape Model  "صُممت في جامعة ألباما في برمنغهام. تحاول هذه المنظومة المبتكرة تقليد الإنسان وتفسير الأشكال المصورة، ومقارنتها مع ما يحتويه الكومبيوتر في ذاكرته، ووفق هذا المبدأ سيجري التعرف إلى الصور في الدماغ البشرية. ولا تشير هذه المنظومة الذكية إلى أدق الاختلافات والخواص في أي خط (كتابة) بشري، بل وتعمل ضمن نظام الوقت الحقيقي، معطية نتائج التصوير خلال ثوان معدودة، بدقة تصل إلى 98%. 

 

 

بينما يبذل العلماء قصارى جهودهم في البحث والتجريب والابتكار، راح المسؤولون في بعض الدول يخطون نحو أرقمة الإنسان كمواطن، لسهولة التعامل معه تالياً، ووضعه تحت الطلب في أي أمر طارئ (هويته، وجدوله البيولوجي، وكم هي الميكروبات تحت جلده، و...). وباتت محتلف الوثائق الافتراضية تدخل حيز التداول الواسع في الكثير من دول العالم المتطور. واعتماداُ على ذلك، سوف تظهر قريباً جوزات السفر وسيتم تنظيم إصدار بطاقات الكترونية عامة، تتضمن سائر المعلومات التي تحتويها الكثير من الوثائق الورقية، وهي التي كانت معرضة دائماً لخطر الضياع والفقدان والتلف.حيث من السهولة التعديل في هذه البطاقات والتغيير فيها، وإعادة إصدارها بكبسة زر واحدة على الحاسوب. ومن أجل استبعاد فقدان هذ البطاقة، أو استخدامها من قبل شخص آخر، يجري العمل على ابتكار شرائح ميكروية خاصة "Veri CHip" من المتوقع مستقبلاً زرعها في مشط اليد لدى كل شخص. وسوف تغني هذه الشرائح عن أية استمارات أو هوية أو وثائق أخرى. بيد أن هذه المنظومة المبتكرة لتحديد الهوية لها سلبياتها أيضاً:

أولاً- لا بد لهذه المنظومة الالكترونية من أجل أداء كامل، من أن تشمل كل المؤسسات الحكومية، الصغيرة قبل الكبيرة على مستوى الدولة، وإذا أردنا الانتقال إلى الوثائق الرقمية، فالجدوى ستكون فقط، إذا شملت دول العالم بأسره؛

ثانياً- إن سعر الشريحة لا يقل عن /200/ دولار أمريكي، و/40/ دولار سنوياً للمحافظة على عمل قاعدة (بنك) المعلومات. في حال البطاقات الالكترونية ستكون المبالغ أقل طبعاً، لكن المبالغ ستبقى كبيرة على مستوى الدولة؛

ثالثاً- الخوف النفسي من الرقابة الشاملة، إذ لا بد من إقناع الناس أن هذه المنظومة وجدت لأمنهم وراحتهم الخاصّين، وليس لمراقبة حركاتهم وسكناتهم؛

رابعاً- يخشى الكثيرون من مغبة تسريب المعلومات، أو اختراق قاعدة المعلومات، التي لا تعدمها حالياً شبكات التواصل الاجتماعية.

بصورة أو أخرى، يصنع التقدم العلمي ققزات إلى الأمام، ويعرب العلماء والمبرمجون عن يقينهم بأن كل المرغوب به حالياً، سيكون في متناول اليد في القريب العاجل، بما فيه تخليد الذات رقمياً. أمّا القبول بهذا، أو رفضه، فأمر يقرره كل بنفسه.

 

 

تناهض مختلف المنظمات المجتمعية أرقمة الإنسان، بما فيها الكنيسة الأرثوذكسية الروسية

التي تقول: "إن الكنيسة تعد أي شكل من أشكال إجبار المواطن على استخدام وسائل إثبات الهوية الألكترونية، والوسائل الآلية لجمع المعلومات الشخصية والسرية ومعالجتها غير مقبولة".

 مجلة "بلانيتا" العدد (5) 2013