غابة من الامعات أيها السادة

تأليف: 

لم افعل ذلك، ولكنني تخيلت انني أفعله، كنت اركض في الشارع وأصيح، غابة من الامعات ايها السادة القضاة، غابة من الامعات ايها السادة المستشارين، لم اعرف لماذا نطقت بهذه العبارات ولكنني سرعان ما أكتشفت أنني اقلد محمود ياسين في فيلم (غابة من السيقان) حين سقطت شوكته تحت الطاولة ونزل إلى هناك لالتقاطها فجوبه بعالم آخر من سيقان علية القوم التي تشابكت مع بعضها في طقس جنسي محرم، ما دفعه في نهاية المطاف للجنون والصراخ: (غابة من السيقان يا حضرات القضاة إلخ..)

أنا لم أنزل إلى تحت الطاولة، أنا فقط كنت أشاهد برنامجا حواريا على إحدى الشاشات العربية قام احدهم خلاله بوصف شخص يجلس قبالته بأنه إمعة، فرد عليه الآخر بأنه هو الامعة، بداية سالت نفسي عن معنى الكلمة ووجدتني أبحث في أكثر من معجم، وما فاجأني هو أن معناها السائد كان أكثر قسوة من معناها المنصوص عليه في المعجم، ففي المعجم الإمع، أو الامعة هو الذي يقول لكل شخص (أنا معك) وفي تفسير الكلمةـ هو المتردد الذي لا يثبت على رأي، ويوافق كل واحد على رأيه، بكلام آخر التابع في رأيه أو الذي لا رأي له، أما المتحاوران على تلك الشاشة العربية، فكنت تشعر أن كل واحد منهما عندما وصف خصمه بالامعة، بأنه يقول له : (كلب ابن كلب) أي أن المفردة (إمعة) في المعنى السائد تصل إلى درجة الشتيمة المشذبة،  وبما أن البحث دائما هو ورطة، فإن بحثي لم ينته عند معنى المفردة في المعجم، ووجدتني أتابع البحث لكي أكتشف اين هو الإمعة في المجتمع، ومن هو، وكان أول ما توصلت إليه أن الامعات مستويات وماركات مختلفة، وأن للإمعية هرم متسلسل.

ومن أجل التوضيح نأخذ أولا نوعا من الامعات سائد في البلدان العربية جمهورية الطابع، والحديث عن أنواع الحكم في البلدان العربية دائما بين قوسين، فلا الجمهوري جمهوري ولا الملكي ملكي، فهي طغم ترتدي أقنعة مختلفة، ولكننا نتعامل بما تستخدمه السجلات الرسمية من مصطلحات، وهذه الامعة التي سنتحدث عنها الآن هي الامعة الحزبية، فالرفيق العادي مثلا إمعة لأمين الفرقة الحزبية، وهذا يمكن القول أنه حثالة الامعات، حيث أنه الحلقة الأخيرة في سلسلة الامعات، والفرق بينه وبين باقي الامعات أنه بدون إمعة له، فأمين الفرقة رغم أنه إمعة لأمين الفرع إلا أن لديه رفاق إمعات وهو حلقة وسيطة من الحلقات الامعائية، وأمين الفرع بدوره إمعة  لرفيق ما في القيادة القطرية أو القومية، الذي هو بدوره إمعة لراس الهرم الحزبي، قد يظن البعض أننا نتقصد الاساءة لحزب ما من أحزاب البلد، ولكننا، ولكي لا يشمت أحد نؤكد الآلية الامعاتية متبعة في جميع البنى الحزبية لدى جميع الاحزاب التي تعاني من نفس الداء، وهي برمتها إضافة إلى هذا، مجرد امعات في تحالف عام، الجبهة مثلا، ولا يحق لها ان تشمت ابدا بمن هي امعته، ومثلما ينطبق الكلام عن أحزاب السلطة يمكن الحديث عن أحزاب المعارضة التي تتجلى العملية فيها بشكل اقل حدة بسبب عدم وجود مغريات، فلا مال ولا سلطة، ولكن من قال أن الامعة لا يتم كسبه سوى بالسلطة أو بالمال، فالامعة يمكن أن تزين له فكرة لكي يصبح إمعة، حتى وإن كانت فكرة شبه اسطورية، مستحيلة التحقيق، وليست اكثر من كذبة يصدقها الامعة أو لا يصدقها ويخشى البوح بذلك كونه إمعه من نوع آخر هو إمعة الأكثرية، إضافة على ذلك فإن إمعية الكثير من الآحزاب المعارضة عادة ما تكون خارجية، فتجد مثلا حزبا معارضا مغربيا، امعيته ليبية، مثلا، او لبنانيا امعته خليجية أو غير ذلك.

وإمعة الأكثرية هي نوع ثاني من أنواع الامعية، ولا نقصد بها إمعية الأقلية للأكثرية، وإنما الامعية داخل صفوف الاكثرية، وهذه إمعية رهابية، حيث يخشى الشخص قول رأي يخالف رأي الأكثرية لكي لا يتهم مثلا بالجبن، او بالخيانة، أو بالغباء أو بكبيرة من هذه الكبائر، وهذا نوع متفش في المجتمعات العربية، ولو ان الفكرة التي تحملها الأكثرية هنا تكون دائما فكرة كبيرة ونبيلة رغم عدم قناعة الامعة بها، لتفهمنا الأمر، ولكن وكونوا على ثقة بأن ما اقوله موجود في الواقع، يقوم شخص إمعة بالسطو والسرقة لكي لا يقول عنه رفاق السوء إنه يخاف الشرطة، وهذا طبعا أتفه الامعات.

إمعية السلطة، ويمكن تسميتها إمعية (كش برا وبعيد) أو إمعية ( يسعدو ويبعدو) والمقصود في الحالتين هي الأجهزة القمعية، التي قد تتعرض لك وقد لا تتعرض، ولكنك عن كنت إمعة فإنها بالتأكيد لن تتعرض لك، وهذه مفهومة الدوافع، حيث يقف الخوف وراء إمعية الشخص، وهذه الدرجة من الامعية هي أدنى درجات أمعية السلطة، أما أعلى درجاتها فهي تلك التي يمكن تسميتها بإمعية (كلب الأمير أمير) وهذا الامعة دافعها للامعية هو في الغالب انحطاطها الاخلاقي، وليس ستر الحال كما في الدرجة الدنيا منها، حيث يكون الهدف هنا هو استغلال سلطة المتبوع على الامعات الأدنى درجة.

إمعية السطوة، والسطوة هي سلطة على شكل هيبة، أي أنها ليست ناتجة عن رهاب قمعي حتما، وهي امعية لكبير العائلة، أو للمختار أو لشيخ العشيرة، رغم أن أي واحد من هؤلاء قد لا يساوي قشرة بصلة في الفهم، وربما يكون أحمقا وساذجا، ولكنك تصبح إمعة له لأن العرف لا يسمح لك أن تقول له الحقيقة، وأحيانا تقوم شخصيا بتوبيخ نفسك لمجرد أنك تداولت هذه الأفكار في راسك، ويمكن تسمية هذا النوع من الامعية ايضا، بإمعية العرف.

الإمعية الدينية، وهي شبيهة بالامعية السابقة، حيث تجد شيخا أو قسا يتفوه بما طاب له من الترهات في خطبة الجمعة أو عظة الأحد، وستجد نفسك تابعا له كونك تخاف من التكفير أو التطاول على الذات الإلهيةن رغم أن هذا الشيخ أو القس لا علاقة له بالذات الالهية.

إمعية الشهرة، وهذه الامعية عمليا تكون للجمهور، حيث تضطر مثلا لمديح شخص انت على قناعة تامة بأنه تافه وليس كما يظنه البشر، وتفعل ذلك لأنه ببساطة من المشاهير وله جمهور من المضحوك عليهم لا يتوانى عن وصفك باقذع ما في قاموسه إن تجاسرت على محبوبه أو محبوبته، وقد يكون محبوب الجماهير زعيما سياسيا أو تاريخيا أو فنانا أو له أي صفة اخرى.

الامعية الدولية، وعادة ما تكون الامعة في هذا النوع من الامعيات هي راس الهرم الامعي في هذا البلد العربي أو ذاك، فهذا إمعة أمريكية وذاك إمعة فرنسية وغيره امعة روسية أو غير ذلك، وفي بعض البلدان العربية نجد امعية دولية متعددة أحيانا حيث تكون الجماعات والأحزاب ذات مرجعيات امعية دولية مختلفة، وهذا سببه ضعف سلطة الامعة الأكبر في البلد.

 وسبب انتشار الامعية في البلدان العربية هو تجذر العقلية الامعية، حيث أن كل ذو سلطة مهما صغر حجمها يسعى إلى تربية إمعات حوله، لا بدائل له، حتى الآباء لا أبالغ عن قلت أنهم بنسبة تسعين بالمئة منهم يربون أولادهم كإمعات لهم، لا كاستمرار،  ولذلك فعندما يغيب الامعة الأكبر في أي بلد، بسبب الموت أو أي سبب آخر، انقلاب أو ثورة أو غير ذلك من اسباب غياب كبار الامعات نجد أن بلبلة تحدث في البلد، بلبلة يمكن أن تؤدي إلى كارثة، والسبب يعود إلى أنه لا يوجد بين الامعات التي كانت حول الامعة الأكبر كاريزما تلتف حولها بقية الامعات، ولهذا فإن الامعة التالية التي ستأخذ مكان الامعة الغائب ستلجأ لبعض الاستبداد لكي تخلق كاريزما لها أمام إمعاتها وأمام سادتها.

ربما يظن البعض أن الإمعة يتمتع بالوفاء الكلبي لصاحبه، ولكن هذا البعض على خطأ، فالامعة لا يشعر بمثقال ذرة من الوفاء، وعندما تحين الفرصة سيكون أول من يضع رجله على مؤخرة سيدة ويدفعه باتجاه الهاوية، وهو أول واحد يقفز من السفينة عندما تبدأ الغرق، وكلما لاارتفع مستوى امعيته كلما قل وفاؤه.

وسندرك حجم مأساتنا وعمقها حين نكتشف أن بلداننا العربية تحولت إلى مصانع ومدارس في الامعية، (الجمهوريات) منها تستخدم العصا بشكل أكبر في اساليب التعليم الإمعي، و(الملكيات) تستخدم الجزرة أكثر، كونها تعوم على بحار من الجزر، علما كلا الأسلوبين يستخدمان هنا وهناك، كما تقوم كل ورشة من ورشات تصنيع الامعات بتربية أمعات لها في البلدان الأخرى غالبا ما تكون من السياسيين و المشاهير.

أيها السادة ! يمكن القول أننا في بلادنا ولحقب تاريخية طويلة ومتعددة وعلى مدى عشرات الاجيال عشنا ونعيش في غابة أمعية وارفة الظلال تحجب الشمس عنا من المهد إلى اللحد، ونسبح في بحر من الامعية تتقاذفنا موجاته من المهد إلى اللحد أيضا، ومنذ زمن طويل لا نتعرض لأي تغيير ونكتفي باستبدال أمعة بامعة، ربما سنحتاج إلى خمسة قرون وربما لألفية كاملة من الحرية لكي ننظف جيناتنا من العقلية الامعية.

لا...لا...لا...لا....لا....لا ..لا..لا..لا..لا...لا...لا...لا...لا...لا....لا....لا ..لا..لا..لا..لا...لا هذه ليست أغنية ولا دندنة، هذه وصفة طبية للتخلص من الامعية، قل (لا) مرتين قبل أن توافق على أي أمر يطلب منك القيام به، وعندما تكون لوحدك كررها كثيرا بصوت عال لكي يعتاد عليها عقلك ولسانك، حتى وان ظنك الامعات من الجيران مجنونا.