الحارس العتيد

ترجمة: 

مجلة "بلانيتا"- 10/2012 

ندير المفتاح دورة أو دورتين ، يُقفل الباب ونغادر الشقة مطمئنين، وانتخاب مجموعة من الأرقام على قرص الخزنة تجعلها تكشف  الحجب عن كنوزها. قد لا تبدو الأقفال والمزاليج للعيان، لكنها منتشرة في كل مكان، حتى أبواب الجنة عليها أقفالها (حسب الإنجيل، و المفتاح لدى القديس بطرس في مئزره، وهو رمز العرش البابوي عند الكنيسة الأرثوذكسية في روما).

 

 

(القديس بطرس وبيده مفاتيح الجنة)

لا يمكننا الحديث عن ظهور أول قفل ومسقط رأسه، إذ إن تاريخ الأدوات التي أوصدت بوساطتها الأبواب، يغوص في عمق الزمن إلى ما قبل التأريخ. فمنذ العصور الحجرية راح الإنسان القديم يرفع الصخور والأحجار لتغطية فتحات المغارات، أو يلقي بجذوع الشجر لحماية ما كان لديه من الوحوش والحيوانات داخلها.

 

(باب حجري لمغارة)

أهم قطعة في الأقفال- هو المزلاج، الذي ظهر حيث بدأ تطور تربية الحيوانات. فلكي لا تهرب الحيوانات الداجنة، ولا تصل إليها الحيوانات المفترسة، أخذوا  يسيّجون الحظائر، ويزودون فتحة الباب بمزلاق. هناك، في المدن القديمة الصينية والمصرية، أو في بلاد الرافدين، ظهرت أول أقفال.

 

(مزلاج)

كانت أبسط الطرق لإحكام إغلاق الأبواب، من خلال حبل يمر عبر فتحتين في لوحي الباب تعقد عليه أنشوطة معقدّة، وحيث كانت الأدوات الحادة والمعدنية نادرة، بدت هذه الطريقة وقتئذ ناجعة ومضمونة. على هذا المنوال أصبحت "عقدة غورديّ" (الملك الإغريقي الذي ربطها وفكها الاسكندر المقدوني (إسطورة إغريقية) تشير إلى أن "غورديّ" - كان فلاحاً بسيطاُ في قرية ابتدع أهلها الكثير من العقد الذكية لإقفال الأبواب- ربط عربته بهذه العقدة، ووصل بها إلى المدينة حتى محراب زيوس، ونصّب ملكاً على "فريغيا") أصبحت حسب الكثير من العلماء، "قفلاً"  رمزاً. تعد عقدة "فوروف" (عقدة الحماة) من أشهرالعقد في عصرنا، بسبب انتشار استخدامها لربط المزالج والأكياس. بالطبع، لم تثن هذه الربطات اللصوص والسارقين عن مآربهم، لكن خلاصة القول: إن تلك العقد لعبت على الأقل، دور الترصيص في زمننا المعاصر.

بيد أنه من أجل حماية الأبواب الموصودة على الكنوز الملكية، أو القصور لم تكن الحبال أضمن السبل، كان لا بد من مزلاج ثقيل موثوق، إذ باستطاعة كائن من كان تحريكه وفتح الباب لو كان يتمتع بقوة كافية، وهنا دفعت الحاجة لظهور أول قفل حقيقي. أقدم أنموذح من الأقفال كشفت عنه بعثة "إيميل بوتا" الاستكشافية في قصر الملك الآشوري سارغون الثالث، يعود تاريخه للقرن الثامن قبل الميلاد. تصميم هذا القفل بسيط للغاية، لكنه موفق جداً، لدرجة أن مبدأ عمله يستخدم حتى وقتنا الحاضر. على مزلاج هذا القفل الثقيل، ثقبت بضع فتحات وضعت فوقها أصابع من خشب شديد الصلابة، وعندما يجري تحريك المزلاج، تهبط الأصابع تحت وطأة ثقلها الذاتي ويُقفل الباب. من أجل فتح الباب، تطلب الأمر مفتاحاً، يعمل تماماً كالذي نستخدمه اليوم- عبارة عن لوح معقوف بنتوءات تشبه المشط، تتموضع هذه الأسنان على مسافات تناسب مواضع الأصابع في القفل، وحين وضع اللوح في كوّة صغيرة خاصة في الباب، يمكن رفع الأصابع وتحرير المزلاج وفتح الباب. دُعيت هذه الآلية "بالقفل المصري"، حيث لاقى هذا القفل رواجاً، خاصة في مصر القديمة.

 

 

(تصور لقفل مصري)

أما في الصين،   فكان الأمر يختلف قليلاً، حيث ظهرت الحاجة لحماية الممتلكات، نظراً للتطور المتسارع بأعداد المدن الكبيرة. غير أن الحاجة الماسة لم تكن في حماية الكنوز وراء الجدران الحجرية، المحاطة بالحرس الامبراطوري، بل في حماية سكن الناس البسطاء. ولكن، ما فائدة المزلاج على الباب، إن كانت الجدران ذاتها من خشب القصب. وهنا جاءت الصناديق لتلعب دور الحارس الأمين، فظهرت الأقفال المعلقة. كانت حلقة هذه الأقفال تمرر خلال عقد وتغلق بسقّاطة، وحتى لا تنفتح الحلقة من ذاتها، تجعل فيها فروض تدخل فيها نوابض مخفية داخل القفل، بعد إغلاقها. كان المفتاح شبيهاً جداً بمفتاح الفراعنة- عبارة عن مشط صغير، تموضع أسنانه يتفق مع تموضع النوابض التي في القفل. بدا هذا التصميم في ذلك العهد معقداً جداً وباهظ الثمن، ومن أسباب الرفاهية كذلك، إذ زُينت الأقفال بشتى أنواع الحفر والنقوش، تمثل الحيوانات المقدسة والكتابات الهيروغلوفية. وانتشرت هذه الأقفال بسرعة كبيرة، رغم غلاء ثمنها، وبات القفل رمزاً للثقة والطمأنينة والغنى. ثم اشتهرت عادة إهداء الأقفال الصغيرة بعد إبرام الصفقات، أو عند تقديم الطاعة للملوك وما دونهم.

 

(قفل صيني)

 كان أهل أوروبا القديمة لم يعرفوا بعد في تلك الحقبة، معالجة المعادن جيداً لصناعة نوابض صغيرة، تمكنهم من تصنيع مثل تلك الأقفال، فعمدوا إلى وضع سقّاطة في القفل، تشبه رأس السهم تمسك بحلقة القفل وتثبّتها. الجدير بالذكر أن أجزاء القفل كانت متلاحمة حتى ليبدو القفل سبيكة واحدة. من أجل فتح القفل استعملوا دبوساً، وكانوا يزينون فتحة القفل بحذاقة بمختلف النقوش. ثم ابتكر الألمان والكيلتيون المفاتيح، بعد أن اطلعوا على الحدادة الرومانية وتعرفوا إلى المفتاح الروماني. وهكذت بدأت رحلة المفتاح الروماني عبر العالم. لم يكن هذا محض صدفة، فروما مدينة كبيرة ومكتظة بالسكان، ومليئة بقناصي متاع الغير، ما جعل الحاجة للأقفال ضرورة ملحة. طور الرومان آلية الأقفال وحدّثوها، فوضعوا القضبان، التي توضّعت في صف واحد على مسافات مختلفة في الأقفال الفرعونية، في صفوف عدة. وبالنتيجة بدا المفتاح أقرب إلى ما نعرفه اليوم- حلقة لسهولة حمله، يمتد منها قضيب تتفرع عنه أصابع. بيد أنه من أجل فتح القفل، كان لا بد من الضغط على ثقب القفل بالمفتاح بدل تدويره.

 

(مفتاح روملاني)

أصبح المفتاح، بعد أن وصل إلى الشكل الذي نعرفه اليوم، شيئاً رمزياً. فقد بات أداة لا يمكن الاستغناء عنها لدى كل ربة منزل، حيث كانت في بعض الأحيان تحمل حزمة كبيرة من المفاتيح (للبيت والعنبر ومختلف الصناديق والخزن). وعلى الرغم من أنه عبء ثقيل، كان أيضاً مدعاة للمفخرة- إذ دل على الغنى والرفاهية، لا سيما أن الحرفيين لجؤوا إلى تصنيع المفاتيح من المعادن الثمينة، وهو تقليد عاش الحضارة الرومانية وتجاوزها. أما ربات المنازل الألمانيات والكيلتيات، فكن يتمنطقن  في مئزرهن بحزم المفاتيح الرنانة والثقيلة- دلالة على زوجات- ربات منازل لأزواج أثرياء .

    

       أصبح المفتاح كذلك، من لوازم بعض الآلهة، وكان أول من استخدمه- الإله يانوس- راعي الأبواب  والممرات ورأس السنة، ذو الوجهين. وبالطبع لم يتخلف الكهنة عن ذلك، فكانوا يحملون المفاتيح رجاء التقرب من الآلهة، ثم انتقل التقليد إلى الأفراد المشاركين في المسرحيات اللاهوتية. كما باتت كلمة مفتاح ذاتها، تحمل في العديد من اللغات معاني مختلفة، لا ترتبط بمادتها الأولية، بل بقدرته على فتح المغلق وكشف المستور. وهكذا، صارت كلمة المفتاح تشير إلى الدليل لفك رموز الرسائل، وفيما بعد، درج استخدامها للإشارة إلى الإجابات الصحيحة، والكلمات المتقاطعة. يلجأ الكثير من المجتمعات إلى استخدام كلمة مفتاح، كرمز للمعرفة، التي تفتح الطريق نحو أسرار جديدة. فيما اقترنت كلمة "قفل" بالضمانة والثقة والحرز، حتى غدت مصدراً لمسميات الحصون المنيعة (القلاع) في سائر اللغات الأوروبية.

 

(الإله يانوس)

منذ القرن الثاني عشر، صارت مهمة حامل المفتاح (أمين الخزينة) رمزاً لأرفع وظيفة في الفاتيكان، إذ إنه اؤتمن على أسرار الكرسي الرسولي، وكان الوحيد من يستطيع الدخول الحبر الأعظم. وانتشر هذا التقليد بسرعة في أوروبا وسط الملوك، فكان أولهم الملك الإنجليزي- ياكوف الأول- الذي رأى في هذا الاختراع (القفل والمفتاح) ليس فقط أماناً له من التعرض للاغتيال، بل ونقلاً مضموناً للسلطة لأياد أمينة. فعندما اعتلى العرش، ومن أجل التخلص من الموالين والمحسوبين على الملكة يليزافيت، الذين لم يكن يثق بهم، دون إثارة حفيظة المتنفذين من سلالة الملكة، ابتكر هذا الملك الألمعي مخرجاً عبقرياً: حيث شكل جهاز سلطة جديداً، أسماه: "غرفة النوم الملكية" ووزع وظائف أمناء الخزن على أتباعه. في بداية الأمر راح الإنجليز من ذوي الكبرياء ينظرون إلى خدم غرفة النوم بازدراء، لكنهم سرعان ما أدركوا جدية وخطورة هذه الوظيفة- فقد باتت غرف نوم الملك تقفل، والمفاتيح في أيادي الأمناء فقط، ولا يستطيع أرفع مسؤول حكومي الدخول على الملك دون إذنهم. وصار أصحاب المآزر التي تعلق بها المفاتيح، أصحاب الحل والربط آنذاك.

 

 

(المخترع جوزيف براما)

       جوزيف براما- مصمم أول صندوق- خزنة في القرن الثامن عشر، عرض قفله في واجهة محله ووعد من يقوى على فتحه - دون مفتاح- بمكافأة مالية ضخمة. فقط ، بعد مرور 60 سنة استطاع حداد التحايل على القفل وفتحه، بعد جهد استمر 51 ساعة ، في حين بقيت أقفال بارما على مدى 200 عاماً الأفصل في العالم.

 

 

(قفل جوزيف براما)