آسيا

تأليف: 

أعيش في بلد غريب كأنني أتصفح ألبوم صور غريب، كل يوم وجوه جديدة وأناس جدد أقابلهم في طريق الحياة الطويل. أرمي صفحات الأيام دون التمعن في بعض الصور، بائعون، سائقون، جيران ... وأناس لا يعنون لي شيئاً، وجوه لا تعكس أي شيء ... وربما أنا أيضاً بالنسبة لهم غريب كأنني صورة بلا روح. لقاء عابر آخر، تعارف، صورة أخرى جديدة تضاف إلى البوم الحياة. اسم مكتوب خلف صورة تعكس وجه صاحبتها، ـ إنها آسيا!

  آسيا ـ فتاة لا أستطيع القول بأنها رائعة الجمال، لكن عندما أراها تتولد لدي رغبة بأن أنظر إليها باستمرار ـ ببساطة إنها لغز، أحجية، سرّ، حزن مختبئ في أعماق عينيها السوداوين الكبيرتين. سأقص عليكم تاريخها محاولاً بث الحياة في الشكل المتجمد في الصورة كي نستطيع ملاحظة أرواح الناس من خلال الصورة السلبية (المسودة).

   قبل عشر سنوات أنهت آسيا دراستها المدرسية وحصلت على شهادة الثانوية العامة وكانت فتاة شابة جذابة، وأن كل حياتها الجميلة مازالت أمامها كما تقول لها والدتها دائماً، والمستقبل بانتظارها، بالطبع حياة من المفترض أن تكون حافلة وغير معروفة إلى الآن! الحب، الذي تنتظره، وكأنها تستمتع بلذِّةٍ في انتظار عيدٍ، بينما تمضي أيامها بالأعمال المنزلية والأعمال اليدوية حول المنزل وبأحلام هادئة. لا .. إنها لم تنجذب يوماً إلى الراحة هروبا من هذه الأعمال ولم تملّ، إنها كانت تعرف تماما بأن الأشياء الجميلة مازالت بانتظارها وسوف تصل إليها آجلاً أم عاجلاً، وأنها مازالت في بداية الطريق الحلم.

   لقد فكر محمود شقيق آسيا بالزواج، لكن لا يوجد فتاة في القرية تحمل المواصفات المطلوبة، فهو أظهر رغبته بذلك، والآن العائلة كلها أصبحت مشغولة باختيار المرشحة المناسبة. يجب أن تكون الفتاة متعلمة، من عائلة غنية كي تناسب الوضع العالي الذي تشغله عائلة محمود في القرية. يجب أن لا تكون سقيمة هزيلة ونحيلة الجسم، أما أهلها فيجب أن يكونوا من الأشراف، والمهر يُصْرَف بكامله من أجل شراء حاجاتها التي سوف تجلبها معها إلى بيتها الجديد، بيت الزوجية، وليس على احتياجات أهلها. هذه عملية عادية في هذه الأماكن، فلذلك آسيا لم تتلوى أو تتذمر من هذه الطريقة في اختيار شريكة الحياة. عرضت آسيا مازحة صديقاتها لأخيها محمود كي يختار شريكة حياته. والد محمود أيضا قدم اقتراحاته بهذا الشأن لكن محمود رفض الجميع لأن لدى محمود مواصفات إضافية ليست ضرورية بالنسبة للكثيرين لكن بالنسبة له فهذه المواصفات ضرورية جداً ـ وهي أن العروس يجب أن تكون رائعة الجمال ومذهلة ومتعلمة. كان محمود محبا للشرف (وإذا استبقت الأحداث أقول أنه بفضل هذه الصفة حصل على الكثير من النجاحات والاحترام في حياته)، فلذلك يريد أن يتباهى بزوجة المستقبل. في النهاية أعجبته فتاة لكن تبين أنها مخطوبة لابن عمِّها الذي يمتلك الأحقية دائما أمام الآخرين حسب عرف المجتمع. فأعجبته أخرى لكن تبين أن لها أخت كبرى يجب أن تتزوج أولا وأن منظرها الخارجي ليس جذابا كما الصغرى وفي مثل هذه الحالات الكثيرون لا يرغبون في كسر القاعدة والخروج عن المألوف.

  اقترب فصل الخريف فأصبح محمود عصبياً وأحياناً يفرغ جام غضبه على أخته ويثور لأتفه الأسباب. كانت آسيا تنتظر قدوم العروس إلى المنزل بفارغ الصبر معتقدة أن الزواج سيجعل من أخيها الوحيد أسعد إنسان وهي تريد أن ترى أخاها سعيداً ومن ناحية أخرى تهدأ ثورته ويزول غضبه. آسيا تحتفظ بالكثير من الرقة واللطف والحب والدفء، تختزن هذه المشاعر إلى حين يأتي نصيبها، لتفرغه من أجل شريك حياتها. بالطبع إن العروس سوف تجلب الفرح إلى بيتهم لأنها ستعطي كل مخزونها الداخلي الذي احتفظت به لشريك حياتها محمود. في إحدى المرات ذهب محمود لزيارة أحد أقاربه الذي كان هو كبير العائلة و يحل كل المشاكل المتعلقة بالأرض الكبيرة المملوكة من قبل هذه العائلة، إنه ذهب إلى العم الكبير كي يتفق معه من أجل الاشتراك معه في استئجار حصَّادة لأن موسم حصاد القمح قد اقترب.

   عندما تم الاتفاق على كل المسائل المتعلقة بموضوع الأرض والحصاد والاشتراك في استئجار الحصَّادة وضعوا أيديهما في أيدي بعض وشدت الأيادي، نادى العم الكبير ابنته كي تجلب القهوة حسب العادات. حظرت مدينة "ابنة العم" جالبة القهوة المرَّة، فجأة ارتبك محمود وفقد توازنه بالنسبة للمكان والزمان وأصابه الذهول وأحس أنه في القبة السماوية وليس على الأرض وان ملاكاً سماوياً يقترب منه ببطء، تمتم محمود: إنها ليست من بني الأرض! انحنت مدينة أمامه مقدمة له فنجان القهوة فلم يستطع تحريك يده، فقط نظر إليها عبر ستارة مشدودة من غشاوة متجمدة أمام عينيه. تقلبت الأفكار في رأسه والدم يضرب في صدغيه: من هذه الفتاة؟ إنها مخلوق سماوي! هل حقيقة هذه مدينة؟ مياسة القد كالمهرة الأصيلة، جميلة كالخرافة، لا أصدق أن هذه هي مدينة التي كنت أشاكسها دائماً، وأهديتها صفعة قاسية على وجهها في أيام الطفولة!.

   ارتبكت مدينة وهربت منزعجة من ارتباكه وذهوله. هنا نسي محمود القهوة وأصول أدب العائلات والضيافة وسأل بصوت مفاجئ: كم؟ ما هو المهر الذي تريده يا عماه؟ فهم العم أنه لا وقت للاستعراض الآن فقال: تزوج إذا أردت فالمهر ليس مهم في هذا الموضوع يا ابن أخي، أنت معروف بخصالك الجميلة في كل المنطقة! وكل الفتيات يتمنينك يا ابن أخي، ولا أستطيع أن أرفض لك طلباً كهذا، لكنك تعرف شقيق مدينه! إنه مقعد وبدون أرجل وانه لن يستطيع إيجاد الزوجة الجيدة والمناسبة، فلتكن أختك آسيا زوجة له، نحن أقارب وهي التي تستطيع أن تحافظ على شرف ابني وشرفنا جميعاً، أليس كذلك؟. وفجأة أضاف العم بصوت حازم: هذا هو شرطي الوحيد يا ابن أخي العزيز!. إن هذا التبادل المقترح لم يذهل محمود من حيث الجوهر، لأنه حالة عادية معمول بها في الشرق عموماً، لكن استفاق القسم الآخر من قلبه حيث تجلس أخته آسيا اللطيفة النظيفة الحالمة.

   عاد إلى البيت بسرعة قصوى محاولاً تهدئة ضميره بأنه لا يستطيع العيش بدون مدينة ولا يوجد مانع من التضحية بحياة أخته الغالية آسيا في سبيل الحصول على مدينة.

   كان الحديث مع الوالدين قصير جداً، قال الوالد: أولاً وأخيراً، الآن أو غداً، فإن آسيا سوف تتزوج! وما هو الفرق من سيكون العريس؟ أنت يا محمود ابني الوحيد وستحصل على كل شيء تريده! أما الوالدة فبكت بصمت، بدون صوت، لم تجرؤ على العويل الذي يسكن قلبها أمام الزوج القاسي من جهة والابن الذي يعيل الأسرة وهو عمادها من جهة أخرى.

  في المساء اقترح محمود على أخته آسيا التي تم سلفاً رسم مصيرها بأن ترافقه بجولة في سيارته للاستمتاع بلذة التسلية عبر الأيام المتشابهة المملة. كانت آسيا ترتدي ثوباً بسيطاً فقفزت من فرحتها إلى المقعد الأمامي للسيارة بشغف. انطلق محمود بسرعة مذهلة بحيث جعل السيارة تتأرجح يمنة ويسرة وتسير بشكل غير متزن. في هذه الأثناء شاهدت آسيا والدتها عند مدخل المنزل تلوح بيديها بحزن، نظرت إلى أخيها ففهمت كل شيء، لم تعرف لمن اختاروها لكنها عرفت أن الضحية تساق إلى المذبح. إنها ولدت وترعرعت في الشرق، ومن هذه الحالات الكثير، لم تنبس ببنت شفه ولم تسأل، ولم تبك. لكن كل شيء في داخلها تحجر والقلب الحجري رمته مباشرة على الطريق الحجري المؤدي إلى المصيدة، محدثاً ألماً. على أية حال بعد وقت بسيط بدأ الألم يزول وبدأت تفقد الإحساس بالألم لأن الحجر لا يحس بالألم. التبادل تم بشكل اعتيادي، صفقة، حضرها شيخ القرية لعقد القران، وشاهدان، واحتفال بهذه المناسبة!

    محمود يهيم بعشقه لمدينة حتى يومنا هذا! لديه ثلاثة أبناء، يعيشون عيشة رغيدة وغنية وسعيدة. آسيا ضيعت أحلامها وحتى شعورها بالأحلام، لكنها لم تصبح بشعة في يوم ما، حافظت على جمالها طيلة هذه الفترة على الرغم من أنها أنجبت ستة أبناء، تهتم بزوجها بكل ما تستطيع، وتساعد عمها وزوجة عمها في كل الأعمال المنزلية، لكن حبها وحنانها كله تهديه دوماً لأطفالها كي تربيهم على المحبة، تعطيهم الثقة بولعها وعشقها لهم! كم كانت حياتها صعبة، وهي تظهر محبة وعطفاً خادعاً لزوجها وأخيها وغيرهم ممن باعوها في سوق النخاسة دون أن يسألوها! فبدأت تشعر مع تقدم السن، كم الحياة صعبة في ظلِّ هذا الخداع. محمود لم يسمع أبداً أي كلمة عتاب موجهة له من قبل أخته، ولا الأب أيضاً. لكن آسيا، كانت ترى وتشعر دوماً، أن نظرات محمود مليئة بألم كبير ومعاناة كثيرة، عندما ينظر إلى وجه أخته أثناء زيارتها........