في الطريق إلى دمشق

تأليف: 

(1)

يلقـي الوقتُ ظلَه على الأرض، يستلُ نصلاً من دمٍ جف على سطح المرايا، يدنيه من حنجرةِ أسئلةٍ تفر من قفص المؤجل نحو حلمِ الورد بتسلق شرايين الكمان، ينحرُ حقَ ظبيةٍ في الارتحال بين ألوان الفرح، فتنفرُ أسرابُ السنونو من أوردة الروح، وتئن الأرضُ تحت وطأة دمٍ جديد.

دم يُسفك فوق صفحاتِ تاريخٍ أصفرِ النوايا، تتناثر أشلاؤه بين حروفِ أبجديةٍ تُدنسُ طهارةَ الصبحِ لتمدح ظلاً عند حدود الغروب، أو لتمحو أثارَ أقدامِ الضباعِ عن حبرِ الحكايا وأحلامِ الضحايا، فتتبرأ شقائقُ النعمانِ من استعارات الشعراء وابتذالِ القصيدة، وترفعُ الريحُ مرساتها من قاع المراثي لتبحرَ بشراع الأمل نحو صهيل الشمس في ذاكرة القطا فوق موجةٍ لا تنام في رحم الخطايا.

دمٌ يسيلُ على خشبةِ الخلاص، مثل دمع نبيٍّ يُلهي حَمـَلَةَ العرش عن التسبيح، فيهبطُ الغمامُ ليضمد جروح شعبٍ يُذبح بحد السيف ولا يموت.

(2)

يشدُ الربيعُ رحاله إلى دمشق، فيسبقه الياسمين ليُعَلّقَ صورةَ الوقتِ الجديد على أسوارها العتيقة، يطوي الدربَ بلهاثِ خيل تعود إلى سواقيها، فينسكبُ العطرُ فوق زهر المشمش، وتنصهرُ الألوانُ على أجنحة الفَراش، ويغتسلُ السحر بزلال ينابيعها ليلجَ تفاصيل حاراتها المفعمة برائحة القهوة وطعمِ الانتظار.

دمشق أجمل من أن ننسى الطريق إليها، فما أن نتلمس القلبَ حتى نعثرَ على أثر خيطٍ من حرير روحِها يقودنا إليها، ودمشقُ أعلى من وصف الشعراء، وأنبلُ من أن تنحني لريحٍ تستقوي على رقةِ النعناع، أو لصبارٍ يستولي على حنجرة الناي، ودمشقُ أقوى من أن تركع أمام زحفِ الجرادِ على حروف اسمها أو ما يرادفه من كنايات تَخُطها أصابعُ الأطفالِ على جدران المدارس لنتعلم أن عروش النرجس لا تستوي على بُركِ الدم المضرج بأحلام الياسمين المعلق على أقواس نوافذها.

(3)

من مغارة الدم في قاسيون يخرجُ أولُ القتلى نحو حدود اللاوقت، يبحثُ عن أرض لا تتسع لجُناةٍ يتعلمون من الغربان كيف تُدفن الآثام، فلا يجد سوى مقابرَ بلا أسماء ومنابرَ شوك يَنبتُ فوق وصايا الأنبياء، وبقايا مِسلةٍ تؤرخُ أيامَ قتل البشر للبشر، وأسئلةٍ ما زالت في بطن الريح: أيُ نهرٍ سيغسل يديك من دم أخيك يا ابن الإنسان، أيُ أرض ستحمل ذنبك، أيُ إله سيَقْبلُ قمحَك، وأين ستبني بعد الآن عرشَك؟

(4)

بين بلاغةِ الصورة وعلو الفكرة، يفيضُ الدمُ على ضفاف بردى، وتشربُ الشامُ حسرة أولادها مرتين عندما يسألها الشهداء: هل نبحثُ عن قبرٍ أم عن وطن؟ وهل نستحقُ جنازةً تليقُ بأحلامنا المسجاةِ على قارعة الطريق؟ فينفجرُ الدمعُ المحبوسُ في عروقها ويعجنُ الترابَ ليصنع لها لوحاً تَخطُ عليه تاريخَ مأساتها القادمة.

(5)

ينشرُ الليلُ حِلكتَه فوق الشام بزهو طاووسٍ أو جبروتِ طاغية أو ثقة إله لا يعترفُ بثنائية الأشياء، فيمتلئ الهواء برائحة الصدأ وتنسدُ مساماتُ القصيدةِ وتذوي عروقُها على حجر، وعندما تخرجُ أغنيةُ أو حتى ترنيمة عن إيقاعه المضني لتُطلَ على شكل الفجر أو ترتدي لونه، يفخخُ أمامها طريق الكلمات، ويحاصرُ شوق الوتر للسفر فوق سحاب يجمع شتات قلبه ليهطل بين أحلام الزنبق.

ولكن عندما يستيقظُ النهار لا يبقى من الليل سوى المجاز، وشبحٍ يخافُ من ظله ومن دوران الأرض، أو غولٍ على حائط يتربص بخيال طفل قبل النوم، فالليلُ في حضرة النهار ليس أكثر من فعلٍ ماضٍ لم يحسن التعامل مع زمنه.

(6)

ليست المحكمةُ المكانَ المناسب تماماً للاحتفال بانتصار الحقيقة، ولكنها الأقرب إلى ذلك، وليس الورقُ الأبيض الملجأ المناسب للهروب من رصاصة أو شظية، لكنه يصلح لتوقيع اتفاقية استسلام الشوك أمام دم الورد، فلا تؤلبوا حاشية الملك على الملك، لأن عدد القطع على رقعة الشطرنج لن يتغير، ولا تبيعوا الياسمين في ردهات الفنادق حتى لا تعلق رائحةُ الوطن في مخادع الغرباء، ولا تطلقوا النار على الفكرة، بل ازرعوها في القلوب لتَنبتَ نشيداً جديداً أو فرساً تحلق بالحلم المنكسر فوق صهوة الريح البيضاء.

دمشق

15/3/2012