أتصدقون أن لدى كل منا صندوق أسود ذو خلايا رمادية؟

ترجمة: 

مجلة "بلانيتا" (82) 2012- بتصرف

 

      غاص العلم في أعماق الأرض ووصل إلى نجوم السماء، ونمتلك تصوراً واضحاً عن بنية نواة الأرض، وحتى عن تكوين المجرات البعيدة، ومع ذلك كله، نعلم القليل عما بداخلنا. إن أكبر لغز يقف أمام الإنسان هو دماغه.

      كل شيء معقد، وبنيته ومبدأ عمله غير مفهومين للباحثين، يسميه العلم "بالصندوق الأسود". المعلوم فقط، ما يدخل إلى هذا التكوين وما يخرج منه. الدماغ- هو تماماً هذا الصندوق الأسود. إذ يعرف العلماء كيف يستقبل المعلومات، لكن، ليس لديهم تقريباً، أي تصور ماذا يفعل بها، على الرغم من أن الخلايا الرمادية (الدماغ) تنفق 20% من الطاقة المستهلكة من قبل الجسم البشري، وهذا أكثر مما يتطلبه القلب الذي يعمل على الدوام، ونحن لا نعرف أين تصرف هذه الطاقة.

دماغنا مشغولة دائماً، لكن من الصعب التكهن بأي شيء. لقد أظهرت الدراسات الحديثة، أن الفرق في استهلاك الطاقة من جانب الدماغ، في حالات العمل العقلي الجاد والهدوء التام لا يتعدى 2% وحسب. أما قشرة الدماغ فتبقى في حالة حيوية كاملة، حتى أثناء وجود الإنسان تحت التخدير العام. والطريف، أن من يولدون مكفوفي البصر، يبقى القسم من قشرة دماغهم المسؤول عن البصر، يعمل كما لدى المبصرين.

ينقسم العلماء بين فكرتين، إحداهما تقول: إن الدماغ يعمل باستمرار "دون أحمال" ولا يتوقف عن حالة العمل لكيلا يتطلب عمله من جديد "تحمية"، والثانية تقول: إن الدماغ يتنبأ باستمرار بالآتي القريب، ويستعيد السيناريوهات المحتملة، ليتجهز لأكثرها احتمالاً. تؤكد النظرية الثانية، تجربة معروفة، حيث وصلوا دماغ المتطوعين بنواسخ خاصة، وعرضوا عليهم مسائل بسيطة. كان الأمر مثيراً، إذ تجاوبت أدمغة هؤلاء، قبل أن يشرعوا أنفسهم بالحل. فمثلاً: يجب علينا ضغط زر ما باليد اليسرى أو اليمنى، فيبدأ  القسم من قشرة الدماغ المسؤول عن التحكم بهذه الجهة أو تلك (حسب جهة اليد) بالعمل قبل ثوان من اتخاذ القرار من قبلنا. يظهر ذلك جليا جهاز النسخ المصور، ويشير إلى اليد التي سيحركها الشخص، قبل ثانيتين من اتخاذه القرار. بذلك يمكننا القول بحذر، إنه في الآت من الأيام سنتمكن، بوجود نواسخ مصورة أقدر وأعقد من التي موجودة اليوم، ليس من قراءة الأفكار فحسب، بل والتنبؤ بقرارت الشخص قبل أن يتخذها بنفسه. لعلنا نشكر الله على أن هذا الأمر مايزال بعيداً!

الدماغ- منظومة معقدة للغاية ومبرمجة، بحيث إننا نستقبل الحوادث من حولنا، ونقيّمها ونستجيب لها. غير أن عمل هذا البرنامج قد يختل أحياناً.    لنأخذ ما يسمى "بالعمى تجاه التغيير"- يعني ذلك، أن الدماغ لا يلاحظ التغيرات، إن كنا لا نعلم أنها قد حصلت. مثلاً: في مكتب ديوان الجامعة، حيث يحصل الطلبة على وثائق مختلفة ، يجلس أحد الموظفين وراء طاولة، وهناك شخص آخر لا يشبهه إطلاقاً، وهندامه مختلف تماماً يقبع تحت هذه الطاولة. يدخل طالب  ويعطي الموظف وثيقة لتصديقها، فتقع الوثيقة من يد الأخير، فينزل تحت الطاولة لالتقاطها، ويظهر مكانه الشخص المختفي تحتها. شيئ لا معقول، لكنه واقع: معظم الطلبة لم يلاحظوا الفرق بين الاثنين. فمن أين هذا "العمى"؟ في الواقع، إن الدماغ لا يسعى لمعالجة سائر المعلومات الواردة إليه عبر الحواس، فهي كثيرة جداً. لذا، فإن تلك الأشياء التي يجب ألا تتغير بتصورنا، تهمل، لكي لا نتعرض لفرط الحمل. أجل في الكثير من الأحيان، لا يلاحظ الوالدان كيف أن أولادهما يكبرون. إذ إن التغيرات اليومية الطفيفة لا يرصدها العقل. فهل أننا نفوت الكثير الهائل، بتركيزنا على مقطع دون آخر من المشاهد في حيواتنا.  الأطفال فقط، الذين لا يدرون الهام من غير الهام، هم من يرى العالم كما هو.

يحتفظ الدماغ بالمهم من المعلومات، ويلفظ من الذاكرة غير اللازم " المتروكات" التي لم يطلبها الإنسان مرة. فقد يذكر المرء رقم هاتف صديقه، لكنه عادة ما ينسى الظروف التي حصل بها على هذا الرقم.

الدماغ والتلفزيون- صراع عصبي: يقلص التلفزيون على وجه الخصوص، القدرة على التركيز. من أجل الحفاظ على اهتمام المشاهد، وعدم السماح له بالانتقال إلى قناة أخرى،  يعمد العاملون في القنوات التلفزيونية على ملئ البرامج بمشاهد وأصوات متغيرة بسرعة، تشد الانتباه. فيعتاد الدماغ على هذا الضخ المتواصل والسريع من المعولمات المتغيرة، ثم لا يلبث ألا يهتم بتقصيره عن الوتيرة المعتادة. وبالطبع، فالصغار أكثر حساسية تجاه هذا الأمر من الكبار. لقد أثبت العلماء، أن الشخص الذي يقضي يومياً أكثر من ساعتين أمام التلفاز، يتعرض مع مرور الزمن، إلى مشاكل جدية في تركيز الانتباه. فضلاً عن ذلك، حسب الباحثون الأمريكان، أن الفرد الأمريكي عند بلوغه الثامن عشرة، يرى مايفوق  مجموعه 200 ألف مشهد عنف، ما يجعل الناس أكثر عدوانية. هذا بالإشارة إلى أن مشاهد العنف تزداد إتقاناٌ وقرباً من الواقعية.

تتجدد خلايا الدماغ باستمرار، وتلافيفه خلقت لحمايته من الإصابات، فلو كان الدماغ أملس لتعرض لإصابات خطيرة. أما أن الكبار في السن يتراجع عندهم عمل الدماغ، فهو محض افتراء. فأدمغة الأجداد تعمل بأفضل مما تعمل لدى الشباب، ذلك أنها تعالج كل المعلومات الواردة ولا تهمل بعضها، فتحتاج لوقت أطول، ما يشعرنا ببطئها المخادع، وهي تستوعب أفضل. لكن توجد بالطبع، وللأسف، أمراض تصيبها، كالزهايمر مثلاً.

وهل أننا نستخدم  10% فقط من دماغنا حقاً؟ فهل أخذ أحدهم على عاتقه، تفسير هذه الـ 10%، ما هي؟ الحقيقة تقول: إن فقدان جزء بسيط من الدماغ قد يؤدي إلى إصابات خطيرة في الحركة والتفكير، فكيف بفقدان 90% من الدماغ؟! وهل سيتمكن العلم من إجبار الدماغ على العمل بجهد عشرة أضعاف؟ لا، للأسف. فما هذه الخرافة (استخدامنا لعشرة بالمئة فقط من دماغنا) إلا تأويل مغلوط للباحث - ويليام جيمس- الذي كتب يقول: "نستخدم يومياً جزءاً يسيراً من إمكانياتنا العقلية" لكنه لم يعن أبداً، أن معظم دماغنا غير مُدرَكة. إنه عنى الكسل لدى الكثيرين من الناس عن التفكير والعمل. ففكروا واعملوا، فلا شيء أهم للوصول إلى النجاح، من عمل خلايانا الرمادية الدقيقة.