ثورة تونس

تأليف: 

تونس ٢٤/١٢/٢٠١١ هي تونس بعد عام على ثورتها التي أشعلت بشرارتها ميدان التحرير في القاهرة وساحة الحرية في طرابلس الغرب  وشارع الستين في صنعاء وطال لهيبها درعا في بلاد الشام والمنامة في خليج العرب والحبل على الجرار كما تقول الشعوب ( بإذن المولى عز وجل ) و ( لا سمح ولا قدر ) يقول الزعماء وحواشيهم .    بعد عام على الثورة التي باتت رحما خصبا لثورات عرب خدرتهم شعارات قومية وثورية ووثنية لعقود طويلة ، بعد عام ها أنا في تونس مجددا ولم يتغير الكثير فالوجوه نفسها والشوارع نفسها وأهل تونس على حالهم ، ولكن الاهتمامات والأولويات تبدلت على ما يبدو ، وأحلام ثورة الحرية يبدو انها انكفأت قليلا فها هو  السائق والتاكسي على حالهما ، لكن قليلا من التجاعيد قد غزت جسد التاكسي وبدا لي انها لن تصمد للقائي في العام القادم فاقترحت على امجد ان يخضعها لعملية تجميل . امجد على حاله ايضا ينتقى العبارات بلغة ممزوجة ما بين العربية والفرنسية في محاولة ليبرر لي لماذا توقف النزق الثوري في تونس ولماذا لم يعد غاضبا كما كان في العام الماضي عندما كان يردد صبيحة كل يوم على مسامعي سنغير تاريخ تونس ونصنع مستقبلها ، لن نخرج من الساحات ولا من شارع الحبيب بورقيبة إلا الى فضاءات الحرية وسنكون أساتذة لإخواننا العرب  في كيفية بناء بلد ديمقراطي حضاري على انقاض نظام بن علي العفن ، نعم لم يتغير امجد بالشكل خلال عام لكن مضمونه تغير ورائحة الثورة التي كنت تفوح من جلده تغيرت وعيناه فقدتا بريقهما الثوري ، ذلك البريق الثوري الذي كنت اراه في بيروت ثمانينيات القرن الماضي . بدا امجد وكأنه يعيد حساباته وينتقي كلماته واحدة تلوى الاخرى ، حرفا حرفا ، لكن خيبة أمله من مشهد غرق التونسيين في بحر الشعارات الانتخابية لم يستطع ان يخفيه فبدا وكأنه يتعثر بكلماته من كثرة محاولات التبرير التي لم تمكنه من اقناعي ان تونس فعلا تغيرت ودفنت كل بقايا نظام بن علي ... قمنا بجولة تصوير على عدة اماكن كنت قد زرتها خلال ربيع الثورة التونسية بصحبة امجد  وكنت  اتعمد بعد كل موقع ان اطرح مقارنة لما كان عليه المشهد العام الماضي  وما هو عليه اليوم في المكان نفسه .  كانت مقاربتي للوضع التونسي الذي يعيش الان ولادة اول حكومة ما بعد بن علي وما بعد انتخابات المجلس التأسيسي اقرب للنكتة نعم كنت أحاول ان اثير حفيظة امجد لأعرف اين ذهب بكل ذلك الحماس الثوري الذي كان يعصف بصدره العام الماضي  .  نعم بعد عام على ربيع تونس الخضراء سقطت كل صور بن علي وشعارات بن علي التي أدمنتها خلال تغطيتي لآخر مسلسل انتخابي اخرجه بن علي في العام ٢٠١٠   ، ما عدت اسمع عبارات التمجيد ولا اقرأ لافتات المحبة والمودة التي تعبر عن عشق التونسيين له ومدى امتنانهم لإنجازاته ، لكن شيئا ما من طيف بن على لا يزال موجودا ولا أدرك ما هو ، ربما ذلك الأثر الذي زرعه في نفوس المواطنين خلال سنوات عربدته مع أنسبائه ال الطرابلسي الكرام الذين كان همهم الأوحد مساعدة زين في إدارة شؤون البلاد وتوفير ما امكن من وسائل الراحة للعباد المطيعين . نعم هناك شيء تغير عن مرحلة بن علي في تونس لكن شيئا لم يتغير على ثورة الياسمين التي ألهبت حماسنا وعادت بنا الى عمر الشباب الذي نادرا ما بتنا نذكره لا بل احيانا نسخر من انفسنا على ذلك النزق الثوري الذي كان يضج بصدورنا وعقولنا حينها .  عام مضى على تونس من دون بن علي ، عام مضى وتونس من دون طارق الطيب ايضا ، أقفلت أبواب قصور بن علي حتى ان خبرا يتم تداوله اليوم حول نية الحكومة الجديدة طرح قصور بن علي وأفراد عائلة بن علي للبيع وما اكثرها ، منزل طارق الطيب محمد البوعزيزي في سيدي بوزيد اقفل ايضا بوجه الراغبين بلقطة او حديث مع افراد عائلته ، كل افراد العائلة التسعه غابوا في سنوية محمد الاولى ،   حتى جيرانه رفضوا الحديث مع كتيبة الإعلاميين التي حاول كل عناصرها التفرد بصورة او كلمة في هذه المناسبة لكن باب البوعزيزيي كان مقفلا ( لا تندهي ما في حدا ). في وسط الساحة الرئيسية في سيدي بوزيد احتشد بضعة مئات من المواطنين لمراقبة رافعة وبعض العمال الذين  كانوا يعملون على وضع النصب التذكاري الذي سيحاول فيما بعد تجسيد ذكرى محمد البوعزيزي في ذاكرة شعب تونس ، لم يستوقفني ذلك المشهد نظرا لكثرة الوجوه الرسمية المحلية حتى رموز بلدية سيدي بوزيد كانوا حاضرين ، تلك الرموز التي منعت محمد من وضع بسطة خضار تافهة لتامين خبزه اليومي ، الجميع كانوا هناك ولم يغب عن المشهد سوى طيف بن علي . ومن شدة حساسيتي من المسؤولين الرسمين وخطاباتهم المملة قررت زيارة ضريح محمد لالتقاط بعض الصور او لعله يهمس لي ببعض أسراره او ما هو شعوره الان بعد ان جعل نفسه الشعلة التي ألهبت تونس وجاءت بالربيع في عز الشتاء .   عذرا عذرا من كل الثوار العرب ومن اهالي الثوار وأقرباء الثوار وجيران الثوار  ومن التربة التي تغطي أجساد الثوار عذرا من الأحذية  التي كانوا ينتعلونها في حياتهم ومماتهم ،  عذرا تونس   قد اكون غير مقدر للموقف او غير مدرك لخصائصك وعادات اهلك وتراثهم ، عذرا يا محمد ، لكن ان يهجم على فريقنا واحد من الذين يدعون القربى بك يهجم علينا شاهرا سيفه حقاً يا محمد لقد شهر سيفه بوجهنا وطردنا من المكان دون ان اعرف السبب لأنني لم افهم كلمة واحدة من عبارات القدح والذم التي كيلها لنا بلهجته التونسية ، لقد اعادني قريبك يا محمد الى واقعة اليرموك التي طالما كانت احب درس في التاريخ  على قلبي ، عذرا محمد فالثورة يا صديقي فعلا تأكل أبنائها وفعلا ان بذور الثورة يزرعها المناضلون الصادقون الشرفاء ويحصد غلالها المنافقون الأغبياء ، فبئس الثورة في عالمنا العربي وبئس التغيير الذي تنشده شعوبنا .   حشري أنا بطبعي حشري أنا منذ خرجت من رحم أمي ، طفولي أنا  منذ نعومة أظافري ...... لم  احتمل فكرة طردي من المكان الذي لم يطرد منه احد قط علما ان كل سلالة ادم وحواء ومن خرج من صلبهم يتمنون ان لا يستقروا نهائيا وابد الدهر في هذا المكان النقي لكنني طردت وليس فقط طردت بل تم طردي من مقبرة ، لم احتمل الفكرة وشعرت بإذلال واحتقار لا سيما وانه تم طردي في حضرة فريق العمل. المؤلف خمسة أشخاص جميعهم من أبناء الجلدة البيضاء وما كنت بينهم  دائما إلا استثناء ولكن ان اكون استثناء في مقبرة العرب اشعرني بغضب لم اشعر به يوما لكنه يشبه ذلك الغضب الذي انتابني يوم طردت من بيتي بعبارات أوروبية مهذبة . نعم شعور بالذل ما بعده شعور ، صدقا ان أصعب الشعور هو الشعور بالذل والمذلة ، ولكن على اعتبار انني عربي أصيل فهيهات وألف هيهات مني الذلة ،   عدت بعد ساعة الى المقبرة في خطوة تحد لذلك القريب مع انني عدت خلسة على رؤوس أصابعي كراقص باليه أوروبي لا يفقه بثورات العرب شيئا  ، عدت وصدري كان مفعما بالحقد والكراهية  لنفسي ولأهلي وكل بني قومي ولكل انسان مر بحياتي لحظة واحدة عدت لأقول لك يا محمد ، هرب بن علي ولكن ارض تونس تزخر بألف بن علي ، زج في السجن مبارك لكن عشرات الآلاف مثل مبارك وربما أسوا لا يزالون يسرحون ويمرحون بحرية في ارض الكنانة ، قتل القذافي لكن هناك الف لا بل آلاف على شاكلته وبنفس الأزياء التي كان يرتديها لا يزالون يطلقون الخطب الثورية الغبية من بنغازي الى طرابلس ، خرج صالح من ارض اليمن للعلاج في امريكا لكن مليون صالح لا يزالون يغتصبون ارض الضاد ، عذرا يا محمد لم يبقى من مسلسل الثورات العربية سوى بضعة حلقات سوف نصورها ونخرجها بسرعة ومن دون سيناريوهات بعد ان يسقط الاسد في عرينه علما اننا ندرك جيدا يا محمد ان هناك مليون اسد شرس لا يزالون  ينكحون شرفنا  في أرض الشام ، عذرا محمد على مسلسل الثورات الذي كنت فيه بطل المشهد الاول ، عذرا محمد فمسلسل الثورات العربية لا يختلف كثيرا عن مسلسل باب الحارة التافه الذي خدر امة بكاملها على مدى اشهر من عروضه المتقطعة ، عذرا محمد فانا اعرف انك لم تكن لتقدر ان تكون انت البداية لمسلسل رديء كهذا المسلسل الذي بات يحمل اسم الربيع العربي ، عذرا محمد فقد صدق القائل " فاقد الذاكرة كائنُ بلا هُوية ولا عنوان، يأخذُ ولا يُعطي، يضرّ ولا ينفعُ. أنّه شيءٌ حيٌّ ولا شيءَ في الآن نفسه " عذرا محمد فنحن أمة لم تفقد ذاكرتها نحن أمة بلا ذاكرة ....