ملك الدبكة

تأليف: 

محروسٌ يتحرك على أنغام الزمر ، يتمايل مع كل تهديجة صوت و ضربة طبل .. نعم إنه ملك الدبكة دون منازع!

يدبك  كل أنواع الدبكة على اختلاف سرعاتها لكنّ أحبّ أنواع الدّبكة إٍليه هي دبكة العرب الثقيلة.  لكلّ نفخة مجوزٍ حركةٌ مواكبة .. لكل رشةٍ على الطبل أو الدربكة ... هو يحفظ أوزان العزف و فنونه ، حتى ليستطيع أن يصحح للعازف إن أخطأت أذنه فسرّعت الإيقاع أو أبطأت ..

لم يكن محروس ملك الدبكة عندما كان صغيرا ً، كان أبو علـّوش الأشهب قد استلم زعامة المراسح سنين طويلة قبل أن يوقفه الديسك عن تراقصه الذي تغنت به نساء القرى ورجالها طويلا ً.

 إن هيبة زعيم الدبكة لا تضاهيها هيبة إن استطاع أن يفرض نفسه و يعبئ مركزه و كم من أحمق ادّعى أو حاول ففشل و صار مهزلة بين العربان..

اليوم هو عرس علـّوش الأشهب ، وأبو علـّوش مستنفر منذ أسابيع عند أطباء العظمية و العصبية طالبا ً أي علاج يسمح له بالدبكة في عرس ابنه البكر الذي أقسم يوم ولد أن يدبك في عرسه فيهز الأرض تحت قدميه ، تبـا ً للديسك اللعين ، عشر سنين و هو ينخر أسفل عموده الفقري فيبعده عن المراتب الأولى في دبكات القرية ، ليغدو من كومبارس الدبكات رقما ً غير ذي قيمة ، و لتصبح مشاركاته من باب المجاملة و لدقائق معدودة.

أما محروس فلا يتذكر دبكة أبي علـّوش ولا يعرف عن سلفه إلا الشيء القليل ، لكنه يكن ّ له محبّة و احتراما ً لا يزعزعهما شيء إلا حين يسمع من إحدى العجائز تلميحات ٍ إلى أن مسارح الدبكة لم و لن تشهد مثيلا ً لأبي علـّوشٍ، فيجمد الدم في عروقه و يتلون بألوان الطيف و يصمت مرغما ً إذ يعلم أن أي سجال مع عجائز القرية نهايته الحتمية هي الخسارة المؤلمة.

ساحة القرية تُرش بالماء ، الأطفال يصفون الكراسي و الطاولات ، و الجلبة تملأ المكان ، إنه يوم عرس تقليدي أو هكذا على الأقل ظن البعض.

أبو علـّوش جلس إلى مائدة الغداء و أمامه ظرف دواء مضاد لالتهاب المفاصل، "احذر يا سيد فتحي أن تأخذ أكثر من حبة و تحديدا ً بعد الطعام و إلا تثقب جدار معدتك " تذكر ما قاله الطبيب.

أنهى طعامه ، تناول دواءه ، و ذهب لإكمال التحضيرات..

في قريتنا يتناسى الناس خلافاتهم وقت العزاء و وقت الفرح ، كل القرية مجتمعة ، هم يجلـّون أبا علـّوش لطيبته و ذكره العطر حيث ذهب، و كل من يذكر صولاته في ساحات الأفراح يزيد على احترامه احتراما ً.

 

بدأ عازف الزمر بالعزف ثم تبعه ضارب الطبل و بدأت أكتاف الرجال تتحرك لا إراديا ًو الأيادي تقترب من بعضها بعضا ً، رجال و نساء، يتركون كراسيهم و يتحركون للساحة.

يمسك شاب بأوليّة الدبكة يدفعه عنفوان شبابه، وبعد بضعة فتلات يبدأ الناس بالتململ و ينادون محروسا ً لإشعال فتيل الحفلة بحركاته و روعة احساسه و قيادته للدبكة، فيقوم محروس بهدوء لأداء مهمته التي يحب.

أبو علـّوش يتحرك إلى منتصف الساحة حاملا ً عصاه، يقترب من محروس الذي كان يبرم بسبحته و يتمايل مع ضرب الطبل.

يشير محروس لأبي علـّوش بالسبحة يريد تسليمه إياها في إشارة احترام لأبي العريس، لكن أبا علـّوش يقترب منه و يشير له أن يستمر و يبدأ هو ذاته بالدبكة انفراديا ً و بمحاذاة محروس ..

حركات سبحة محروس وهزة كتفه لا أجمل منها إلا دوران عصا أبي علـّوش ، و الناس في ذهول مما يجري.. محروس نفسه كان محتارا ً بين استمتاعه بالدبكة و فرجته على هذا الشخص الذي نبع من العدم ، كالعائد من الذكريات القديمة، رجلٌ يلاعب عصاه  و يدبك كأنه مخترع الدبكة..

و بين محروسَ و أبي علـّوش ضاعت عيون الناس ، فالأول بدأ يُخرج ما عنده من حركات حفظها و تعلمها ،أو أبدعها وليدة لحظة. و الآخر يدبك كأنما هي الرقصة الأخيرة!!

أبو علـّوش يؤدي ويتمايل، و محروس يواكبه بتناغم مهيب، لم تعد أعين الحضور تهتم بهوية ملك الدبكة الحقيقي، هم لم يشهدوا يوما ً مثل هذا العرض الرائع ، هم يتلذذون بكل هزّةِ كتفٍ و نخـّة.

سيذكر أهالي قريتي عرس علـوّش الأشهب طويلا ً ، ففيه تغيرت نظرتهم للدبكة و حفظوا صورة ستبقى بمخيلتهم طويلا ً، و على إثره أصيب محروس السالم بتمزق في رباط القدم عانى منه شهورا ً، أما أبو علـّوش فنقل إلى المشفى و أجري له غسيل للمعدة لأنه تناول ظرفا ً كاملا ً من المسكـّنات ، ولولا حلم الله لثقبت معدته.

                                                                              طرطوس 13112012